الشعر الأبيض .. صار يغزو عدداً كبيراً من الشباب .. فأحدهم يغيب عنك بضع سنوات .. ثم عندما تلتقي به في مناسبة عامة ، تراه وقد توشح ذقنه وشاربه بالشيب .. فتبادر إلى ممازحته :
" مرحبا .. بالشايب " ..
فيرد عليك من فوره : " وأنت .. ألا تشاهد صورتك في المرآة " ؟
.
والواقع أن الذي اعتدناه أن الشعر الأبيض , لم يكن يظهر منذ سنوات بعيدة على وجوه الناس، إلاّ بعد أن يبلغ أحدهم من العمر عتيّا .. عندما يحدودب ظهره ، وتسقط نصف أسنانه ، وتتلاشى نضارة وجهه .. لكن الذي صار ملحوظا في السنوات الأخيرة , أن غيرما أحد تراه مازال وهو في أواخر الثلاثينيات مثلا، وأوائل الأربعينات , ومع ذلك فقد خط الشيب عارضيه ، وتحول إلى " شيخ شاب " في ذات اللحظة ... فما الحكاية ؟
.
التفسير عندي ـ وهذا رأي فقط وليس حجة ـ أن ضغوط الحياة في هذا العصر ، قد فعلت فعلتها ، وتحولت هموم المعيشة إلى حالة من القلق الدائم ، أدى إلى هذه الموجات من الشيب التي صارت تجتاح الكثيرين ، وتحول أحدهم من رجل مفتول العضلات ، يحمل فوق محياه ذقنا أشد سواداً من الليل , إلى آخر " معقوف " الكتفين ، تطفر ذقنه وشاربه بعدد لابأس به من حبات الشيب .... هذا من جانب
.
ومن الجانب الآخر .. فإنني أعتقد أن غياب ثقافة الابتسامة والروح المرحة ، عند عدد ليس قليل من الناس، قد جعلهم نهبا للانكفاء , ومحاصرة الذات داخل سجن عجيب اسمه " الرزانة المصطنعة " .. وصار الواحد من هؤلاء يتوهم أنه لو ابتسم أو كان " خفيف الظل " لبعض الوقت خلال اليوم .. فإن فعله ذاك سيضيع هيبته، وينقص مقداره ، ويحط من قدره .. لذلك فإن هذا الفريق من الناس قد أوقع نفسه في شر أعمالها ، وهو يتصنع " الرزانة " على طول الخط ، ويبدو شخصا وقورا في كل الأحوال .. ولم يدر أن الساعات واللحظات هي : " ساعة .. وساعة " .
.
وفي كل الأحوال يظل من المناسب ألا ينسى الأخوة الذين صار يداهمهم الشيب قبل أوانه - وأنا واحد منهم ـ ألا ينسوا إزجاء الشكر إلى طيب الذكر , السيد الذي اخترع أول صبغة للشعر، واستطاع من خلالها أن يحول مجموعات واسعة من الشباب الشيوخ إلى شبان , بشوارب داكنة وذقون خالية من البياض .. ضمن طموحهم وخطتهم الاستراتيجية في الحياة : " شباب ..على طول الخط " .. رغم أنف الظروف والمتغيرات من حولهم .
.
وهنا لا أنسى ذلك الموقف الذي حدث ذات مرة , عندما كنت في إحدى الصيدليات ، وإذ بأحدهم يؤمئ للصيدلي بطلب ظننت أنه عقار غريب أو ممنوع .. وإذ به مجرد صبغة شعر، فقد كان صاحبنا يطلبها باستحياء وخجل شديدين ، خشية أن يفتضح أمره ، وتنكشف سنوات عمره , أمام من قد يصادف وجوده في الصيدلية , من المعارف والأصدقاء ، فتتحول الحكاية إلى وجبة من النكات على حاله ، الذي ربما أراد له أن يظل في طي الكتمان
.
واستطيع أن أرجح فرضية أن الإخوة الصباغين - نسبة إلى من يصبغ ذقنه وشاربه نهاية كل أسبوع ـ قد صاروا من الكثرة ، بحيث وجدت الصيدليات في هذا الزمان ، جمهرة واسعة من الزبائن ، ونافذة مشروعة الى تجارة لا يستهان بها في صبغات الشعر ، سواء للنساء المغرمات بالتشقير أو التحمير أو سائر ألوان الطيف الأخرى .. أو للرجال الذين بدأ الواحد منهم يخصص ميزانية " على جنب " لهذه الصبغات ، التي يداري بها عنفوان الشيب , الذي بدأ يقتحم الناس ، ويشكل عند البعض أرقا جديدا , يضاف إلى هموم الحياة الجديدة .
.
اخواننا الأطباء لهم رأي في المسألة ، يجدر أن نورده هنا للاستئناس .. فهم يرون مالم يكن في حسبان عدد منا ..عندما يؤكدون أن لون الشعر في الأساس هو اللون الأبيض .. وأن في كل خصلة من خصلات شعر الانسان توجد بصيلات قد خلقها الله، تكون مهمتها إفراز صبغة تعطيه اللون الاسود غالبا ، أو الأشقر عند بعض المجتمعات .. ثم بعد فترة من الزمن تضعف هذه البصيلات ، فيعود الشعر إلى أصله وهو اللون الأبيض ...
.
الأطباء يقولون كذلك أن هناك شيئا اسمه "الشيب المبكر" ولذلك أسبابه ، ومنها الوراثة ، وسوء التغذية ، ونقص البروتين ، وكذلك ضغوط الحياة ، وما تفرزه مما يسمى أيضا بـ "الشيب النفسي" ، خصوصا عندما يتلفت الشاب حوله ويرى تضاءل فرص العمل أمامه، وغياب المناخات السعيدة، وضبابية المستقبل، وصعوبة أن يحصل على وظيفة ، ودخل مادي مريح ، يضمن له الزواج، والشقة ، وتكوين أسرة سعيدة .
.
وأخيراً .. فقد يكون من المناسب أن نختم بهذه الحكاية .. لرجل كان لديه زوجتان .. الأولى اسمها حانا , وهي الكبيرة في السن ... والثانية اسمها مانا , وهي الزوجة الصغيرة السن .. فكان الرجل إذا زار حانا اسمعته طيب الكلام عن وقار الشيب ، ثم راحت تقتلع من ذقنه بعض الشعرات السوداء , لكي يصبح الشعر كله أبيض
وعندما يزور الزوجة الثانية مانا , يحدث العكس بأن تسرد على مسمعه جميل العبارة عن الشباب والحيوية ، وهي منهمكة فوق ذقنه تجتث عدداً من الشعرات البيضاء ..
.
ولم يفطن صاحبنا بعد أيام الاّ وذقنه قد تلاشت ، وصارت قاعا صفصفا .. فقال عبارته التي صارت مثلا طار به الركبان :
" بين حانا ومانا ضاعت لحانا " ..
1 comment
ابوفهد
09/14/2018 at 7:11 م[3] Link to this comment
اشكرك على هذا المقال
وعندي ملاحظه على كلام الاطباء الشعر اسود ولكنه يشتعل فيصبح ابيض هذا ماذكره الله على لسان زكريا
واضف على كلامك خزنات المياه مصديه ومويه الشبكه غير محلاه حيدآ
تقبل مروري