** لم أشهد حتى اللحظة أية حالة من حالات ( طلاق - للجدات ) .. وأكثر من ذلك فلم أكن أتصور على الإطلاق , أن يحدث أن سيدة في خريف العمر قد صارت مطلقة .. نعم الطلاق يحدث هنا وهناك , ويقع بين أزواج حديثي الاقتران , وأيضا بين من هم في منتصف العمر , ولكن أن يحدث بين كهلين كبيرين فهذه قمة الغرابة وذروة الدهشة .
.
** ما نعرفه وما نشأنا عليه في مجتمعنا , أن الجدات يكن في مكان الحفاوة العليا في حياتنا , وفي مركز الصدارة من العائلة حسيا ومعنويا , اعترافا بفضلهن بعد الله في بناء واستقرار النسيج الاجتماعي للأسرة , فهن عادة مستودع أسرار البيت , ومركز الأمان الذي يحفظه من الاهتزاز , وهن رائحة الماضي بكل عبقه الجميل , وهن بهجة الحاضر , ومعهن وبهن يقر المجلس ويطيب الحديث , وعلى إيقاع لمساتهن الحانية على رؤوس صغارنا ينشأ الحنان , ويورق الدفء العائلي .
.
** لكن .. ولان الزمن يأبى إلا أن يكفهر , نتيجة نزقنا في خلط أوراقه وبعثرة نسقه , فانه حينئذ يمكن أن تنشأ على ضفافه الحوادث الغريبة , وتقوم الوقائع العجيبة , فتكون الأيام غير الأيام التي ألفناها , ومن ذلك أن يقوم الجد بتطليق زوجته - الجدة , في نهاية دراماتيكية مذهلة لمسيرة حياتهما , وفي لحظة زمن عاصفة , تجعل هذه الجدة المسكينة أو تلك , تختتم حياتها الطويلة , وكل كفاحها فوق صفحة الحياة الشاقة , بان تصبح عجوزا - بدرجة مطلقة .
.
** في تقديري ليس ثمة أسى أكثر من هذا الأسى , ففوق ما للطلاق من أذى نفسي على المرأة المتزوجة وهي شابة , فان هذا الأذى يكون مضاعفا على نفس امرأة عجوز صارت جدة , وتظل واقعة الطلاق في هذا السن انكسارا حقيقيا لنفسها , وقضاء على ما بقي في داخلها من حياة , بحيث تتحول إلى هيكل ادمي , يتجرع غصة نكران الجميل , وجحود العشرة , وتداعي ما بقي من روح الإنسانية .
.
** أقول ما تقدم عطفا على ما قرأته - وأنا في حالة ذهول في مجلة ( تسامح ) التي تصدرها لجنة إصلاح ذات البين بمنطقة مكة المكرمة , في احد أعدادها الأخيرة , عندما نشرت تحقيقا صحفيا مثيرا , عن طلاق الجدات والتقت خلاله بعدد من السيدات كبيرات السن اللواتي وقع بحقهن الطلاق .
.
** للوهلة الأولى وأنا أتصفح ما كتبته مجلة ( تسامح ) لم تصدق عيناي ما اقرأ , لولا ثقتي في المجلة , وفي أركانها الأكفاء القائمين عليها , كمطبوعة حققت السبق في مجال الدعوة إلى التسامح .. ووجدت حقيقة أن غصة تعتمل في حلقي , ومعها سؤال ساخن وحائر .. لماذا يحدث هذا ؟ .. وكيف هانت العشرة لدى عدد من إخواننا - اقصد أجدادنا ؟ .. وقد كان بالإمكان أفضل مما كان .
.
** نحن نفهم أن الخلاف والاختلاف بين الزوج الزوجة يحدث , ونعرف بدهيا أن ذلك قد يكون في بداية رحلة الزوجية , وقد يحدث حتى بعد عقد من الزمن , وقد يتم احتوائه , فيسير المركب إلى شاطئ الأمان أو يحدث الانفصال , لكن الذي لا نفهمه أن زوجا وزوجة يعيشان على ( الحلوة والمرة ) عقودا من الزمن فيعرف كل منهما الآخر تمام المعرفة , ويفهم شخصيته واتجاهاته ورغباته , ثم عندما يصلان إلى خريف العمر يختلفان خلافا لا حل له إلا الطلاق , فان هذا من عجائب هذا الزمان , ومما لا يليق ولا يصح , حتى من قبيل الشيم والمروءة .
.
** يا أيها الأخوة .. دعونا في هذا المجتمع الإيماني المبارك , الذي نعيش في كنفه , أن نكون نموذجا للأمم بما وهبنا الله تعالى من معطيات كريمة , بحيث نتعايش كأزواج وزوجات مع بعضنا بسلام ورحمة ووئام , وليحتمل كل منا زلة شريكه , فان هذا من روعة الخلق , وجمال الطبع .. ولتكن رؤيتنا أعمق وتقديرنا للعواقب أشمل , ولنحذر أن تعصف لحظة طيش ببيوتنا , فتحطم قواعدها , ويخرُّ علينا السقف من فوقنا .