عندما تجد نفسك – فجأة – وقد سافرت بعيداً في عالم الخيال .. بحيث تكون لحظتها قد تنازلت عن عدد ليس قليل من سنوات عمرك , المثقلة بهموم الحياة .. لتعود صبياً صغيراً لا يعرف من الحياة سوى البراءة .. عند ذاك فإنك ـ بالتأكيد ـ ستعيش واحدة من أمتع اللحظات وأكثرها شفافية , بل وأجمل مذاقاً .
.
وكاتب هذه السطور عاش تلك اللحظة بشحمها ولحمها منذ أشهر مضت .. عندما أتيحت لي الفرصة للعودة إلى الأماكن التي كانت ذات يوم مسرحاً لطفولتي .. هناك وجدت نفسي أتنازل في عفوية مدهشة عن الكثير من سنوات عمري .. لأعود صبياً أناهز العاشرة .. بكل شقاوتها .. وعنفوانها .. ومسحة البراءة التي تلفها .
.
في تلك اللحظة رأيت عشرات الصور القديمة والجميلة في آن .. ومع كل لوحة كانت تتراءى أمام ملامحي , كنت أشهق للعنصر الحميمي الذي فيها ... أليس قلبي بكل ذكرياته مدفون عند سفح ذلكم الجبل الذي يظهر في الصورة ؟ ..
هناك بجانب البئر حيث كانت تنبعث أصوات خرير الماء .. لتختلط مع نغمات "السواقي" ... ثم مع ثغاء الماشية .. فمع زقزقات العصافير ، في تناغم موسيقي أخاذ يقتلع القلوب .. ويحلق بالذات في سموات من الدهشة ..
.
وهنا .. في هذا المقطع من "الشريط" .. أشاهد صورتي ..ها أنا صبي يتفجر شقاوة .. يقفز كفراشات الربيع فوق المروج الملونة وتحت أغصان شجر اللوز الحجازي .. ويطلق ساقيه للريح تحت لسع حبات البرد ... ثم من عنفوان الشقاوة يفتح فمه للمطر ..
.
وفي مقطع آخر من "الشريط" .. كنت أرى الناس يهجعون إلى بيوتهم في اللحظة التي يكون فيها المساء قد وضع عباءته السوداء فوق جسد المكان ... هدوء عجيب كان يلف الأمكنة .. فيما الناس يتحلقون حول "الملّة" يستجدونها مساءً دافئاً .
.
وبقيت متسمراً أمام ذلكم "الشريط البانورامي" الطويل من الذكريات , وهو يمارس ركضاً جميلاً داخل جمجمتي .. وتعبت .. حقيقة تعبت وأنا أفتش عن حشد هائل من الأشياء القديمة والجميلة معاً .. تلك التي ضاعت من بين أصابع قريتي اليوم ، بعد أن كانت دهراً ممسكة بها .
.
حاولت أن أفرح .. لكن وجبة "المتغيرات" التي فوجئت بها قائمة على أرض الواقع .. وقفت "غصة" في حلقي .. فسدت أمامي كل منافذ السعادة التي كنت أحلم بها ..
لم يعد الناس – هنا – يتحلقون عند فوهة المسجد لتناول وجبة الافطار الرمضانية ... يا - للمكان الخاوي ... قلتها بحسرة .. وأنا أرى الناس وقد استبدلوا جلستهم الجماعية الحميمية بأخرى انفرادية خلف الأبواب الحديدة المؤصدة .
.
وفي جانب آخر بالكاد استطعت أن أمسك بمعالم الطرقات القديمة ... تلك التي كانت ذات يوم تعج بغبار الأقدام الغليظة , التي كانت تحرثها في حيوية فارهة تبعث على الإعجاب .
لم يعد الناس يمشون – هنا – على أقدامهم - يا الله – حتى في القرية .... قلتها وأنا أشاهد بحنق السيارات تراوح بين جارين لا يفصلهما غير جدار واحد..
ولقد فهمت – إنها لوثة السيارات - .. ونجحت في أن أسأل .. لماذا لم يعد أحد يمشي هنا .. خاصةً وأن المناخ رائع وصالح للمشي ؟ .
.
قالوا أن من ضروريات الفهم الحضاري الجديد أن تتكرس القناعة بأن (لا - للمشي على الأقدام) .. حاولت أن أمشي على طريق الإسفلت الرئيس وإذ بالأعين ترمقني من خلف زجاج السيارات العابرة .. تقرصني باستهجان كأنما تستنكر صنيعي ذاك .. هكذا كان شعوري .
وتبقى – والحالة هذه – أي محاولة للمشي الطويل معناها التعرض لموجه لا بأس بها من التهكم والسخرية ..
.
وسألت – بوجع – وهذه البيوت .. لماذا تقام في بطون الأودية .. في زحف متوالٍ ملحوظ على القطع الزراعية ؟ .. هل يكفي – مبرراً – ألا أجد أرضاً فأقيم بيتاً على حساب مصادرة أرض زراعية منتجة .. ولماذا لا يتم عمل مخططات على سفوح الجبال بعيداً عن الأرض الخصبة ؟..
.
وسألت – أيضاً – أين أشجار اللوز (اللوز الحجازي) .. أين الجيل الجديد من هذه الشجرة .. بعد أن شاخ الجيل القديم ولم يعد قادراً على العطاء .. أهو تنازل آخر عن شيء ثمين من الأشياء القديمة والجميلة هنا ؟ ..
.
ولم يقطع سيل تساؤلاتي واستغراقي .. غير مشهد سيارة أنيقة بزجاج مظلل نصف مفتوح , كانت تتمايل وهي تعبر من أمامي .. فيما تنبعث من داخلها أصداء صاخبة لمقطوعة أظنها من موسيقى "الجاز" ...