جدك وجدي كان إذا رغب في زيارة صديقه في القرية الأخرى يتوكل على الله ، ثم يمتطى ظهر دابته متوقعا أنه سيجد صديقه في استقباله - مجرد توقع - وليس يقيناً قطعياً .. ثم إذا ما وصل للقرية الأخرى ، فلن يعرف أهله متى وصل تحديداً ، ومن لقي ، وكيف ؟
.
اليوم أنت تُخرج من جيبك قطعة حديد صغيرة ، وتتصل من خلالها بصديقك ، ثم تتأكد تماما من وجوده في بيته - ثم تضرب موعداً معه .. وعندها تمتطي سيارتك الأنيقة ، وعندما تصل إلى هناك تهاتف أهلك مطمئنا إياهم بوصولك ، بل وقد تبعث لهم بصور أو فيديوهات من (سفرة العشاء) الاحتفالية بحضرتك ، بحيث تجعلهم في عين الحدث كما لو كانوا معك .
.
قطعة الحديدة الصغيرة تلك هي (هاتفك الجوال) والتي لو قيل لأجدادنا – في زمانهم – أنها ستكون قادرة على فعل ما تفعله اليوم لما صدقوا ذلك أبدا .. بل إنهم - حتما - سيشكون في قواك العقلية ، وسينقلونك بسرعة إلى (الفقيه) من أجل أن (يقرأ - عليك) ثم قد يكرمك ويطبع على (قفاك) بضع "كيّات" بليغة ، من حديدة أحمرت ثم أصفرت من شدة اللهب .
.
وهكذا مسألة الطائرة ... التي بواسطتها يمكن لك اليوم أن تتناول إفطارك في مطار سوكارنو هاتا الدولي بجاكرتا – كمثال – ثم تتعشى على (مفطح) في وسط جدة .. بينما الأجداد كانوا يقطعون هذه المسافة في قرابة الشهر , فوق صفحة البحر ومع أمواجه وأهواله ، وقد يصلون ، أو ربما يتحولون إلى وجبه شهية لأسماك القرش .
وقس على ذلك بقية المخترعات والتقنيات والإلكترونيات ، التي أصبحت في متناولنا جميعا - الصغير منا والكبير ، والغني والفقير ، وأمست بالفعل بين أصابعنا سهلة ميسورة .
.
الباحثون يقولون (إن الخيال هو أبو الاختراع) وكثيراً من مخترعات اليوم بدأت من أفلام الخيال العلمي ، ولطالما كان الخيال الجامح والفكرة المجنونة هي الشرارة الأولى ، التي الهبت حماس كثير من المخترعين .. ثم من خلال الإصرار والتحدي حولوا ذلك الخيال إلى حقيقة قائمة ومادة محسوسة ..
وما دام الأمر كذلك دعوني أكمل بقية هذا المقال - حديثا خياليا ، مجنونا ؟
.
بداية اتخيل في المستقبل أنه وبفضل ماكينة العلم والاختراع التي لا تتوقف ، وليس لجنونها وطموحها سقف ثابت ... أن ينتهي زمن الطائرات قريبا ، ويتحول الناس إلى السفر في كبسولات صاروخية وبدل 10 ساعات سفر من الفلبين إلى جدة ، سيصبح الزمن أقل من ساعة واحدة.
.
وشيء أخر .. ففي مدينتك وقريتك والمدن القريبة منك ، أنت عند السفر - مستقبلاً - لن تحتاج الى التوجه الى المطار ، لأنك ستطلب خدمة التوصيل عبر طائرات صغيرة تهبط أمام بيتك ، أو في الساحة القريبة منه هبوطا عموديا ، مثل سيارات أوبر الآن - ومن خلالها ستعانق السحاب الى حيث هي وجهتك في بضع دقائق .
.
وإذا ما (أوجعك) بطنك أو كتفيك فلن تحتاج للمستشفى والمواعيد و(المرمطة) والانتظار .. فمن خلال جوالك سوف (تكشف) أنت على نفسك (تشخيص)، وترى البنكرياس والكليتين والكبد وأعصاب الكتفين ، ثم يحدد لك الجهاز (ما هو مرضك بدقة) ثم بضغطة زر أخرى يظهر لك الدواء المناسب ، ثم بضغطة ثالثة تطلبه من الصيدلية فيكون في دقائق أمام باب شقتك .
.
وستختفي الدراهم تماما .. ولن ترى مستقبلا أية عملات لا ورقية ولا معدنية ، بل ولن تحمل محفظة فيها عشر بطاقات مثلا : (الهوية /بطاقة الجامعة /بطاقة الصراف /كرت العائلة /صك البيت .... الخ) كل هذه ستكون من الماضي .. وسيحل بدلاً عنها بصمة إبهامك أو عينيك .. ومن خلالها ستقوم بكل ما تحتاجه لنفسك من خدمة .. يعني دراهمك ستكون في رأس إبهامك ، ولن تشتري حتى لو زجاجة ماء من البقالة بريال الا من خلالها .
.
وسوف تقوم وأنت في جدة متكئ على أريكة وثيرة ، بإدارة و(تزبيط) بعض الأشياء في بيتك في الباحة مثلا .. خصوصا إذا كنت على وشك السفر إلى هناك .. حيث من خلال التقنية سوف تشغل السخانات وأنت على بعد مئات الكيلو مترات ، والدينامو لمليء الخزان العلوي ، ومكيف التدفئة ، واضاءة او إطفاء بعض المصابيح .. ثم (ستراجع) الكاميرات لمعرفة من الذين مروا من أمام بيتك وأنت غائب عنه ، حتى لو كان مرورهم في جنح الظلام .
.
ومستقبلاً سوف تتعشى مع عائلتك في مطعم في قاع البحر ، فيما أسماك القرش الضخمة بجانبك خلف الزجاج .. وستقضي إجازة نهاية الأسبوع مع أصحابك في (القروب) في جولة في الفضاء الخارجي للأرض ، بعد أن تتجاوزون نطاق الغلاف الجوي ، وربما تهبطون على سطح القمر وتتقافزون هناك فوق سطحه كالبهلوانات - في سعادة غامرة وتجربة مثيرة ، ثم تعودون بالسلامة لـ تذهبون إلى دوامكم اليومي صباح الأحد ، وفي جوالاتكم عدة صور للرحلة السعيدة .
.
وأخيرًا - يبقى السؤال المهم ... هل سنكون نحن العرب - عما قريب - من ضمن العلماء الحالمين والمخترعين .. أم أننا سنظل هكذا متفرجين منبهرين فقط - أمة مستهلكة .. ؟