انفلاتات ضارية، تواتر سافر في الظنون المُعلّبة، وسِربٌ مُلطّخ بالغلاظة يسير مُهيمنًا ويستبدّ، وها هي تزداد يومًا بعد يوم كلما تغيّب الاتصال المباشر الذي يفرض اللباقة ويُغيّب الاحتدام، وحل محله التفاعل الافتراضي الذي رقّى من احتياج الاتصال بالكلمة عوضًا عن تعابير الجسد والإيماءة..
.
ترقّت الكلمة وتعاظم شأنها ، ولكن هل ترقّى القائم بالاتصال .
.
رغم صعوبة تحديد المستوى الذي وصلت إليه التفاعلات الافتراضية ، وسط هذا التُخَم في الوسط الكلامي، إلا أن المتأمل في الوسط يخرج بتصور في ذهنه عن مكمن الثغرة ، ويستخلص منها المتوهجون بتهذيبهم .
.
الانخراط في هذه العوالم الافتراضية يورث المعرفة الخاصة بذواتنا كأشخاص فاعلين ومتفاعلين، ومعرفة بالآخرين وسِماتهم ويخصّص في أعيننا القدوات وكذلك المُنفّرون، فنتعلم من خلال التفاعلات الكلامية مع من نتواتر في الحديث وممن نتوارى وننكمش..
.
التأمل في الاتصال الكلامي هُنا، يوسع مداركنا وكأننا نتصفح الكتب، الفرق أننا نتصفح أخلاقيات الناس من خلال كلماتهم، وآرائهم وردات فعلهم لا سيما في المواقف المشحونة والتي تنخُل الصفات.
.
يستفيد المرء كثيرًا ممن يتأملهم وهم يناضلون للحفاظ على تهذيبهم بعد رشقهم بالسهام، يشعر بقيمتهم كشخوص تملك أحقية الشتم وباستطاعتها نزع الأقنعة في أمكنة لا يعرفهم فيها أحد ومع هذا تخيّروا اللباقة وكأنهم في اتصال رسميّ مُوجّه وقائم بذاته ومرئي!
.
قيل " تعرف الخيّر في المواقف التي يملك فيها القوة والسلطة ولا يتجبر فيها على أحد"
.
أخرج كل يوم بتصورات كثيرة، من خلال تفاعلاتي الافتراضية، أصادف الوقاحة تخترقها اللباقة، أشهد على نِزال كلاميّ بين فكرتين متضادة تنتهي بخيبة أخلاقية، أُبحِر في نُزهة مهذبة من الحوارات يقودها الفُضلاء، أخرج مُتخمة بالانطباعات، كلها تضعني أمام تصور واحد في هذا الأمر، وهو أن مع غياب التواجه ومرونة الاتصال وخلوّ التفاعل من القواعد، تظل الكلمة منخل مهيب وفائق الواقعية، يلمع من خلالها أُناس وتنصهر أقنعة آخرين.
.
ليست هذه الأمكنة افتراضية بمُخرجاتها في أذهاننا، هي الانطباعات الأصدق والتصورات الأكثر واقعية وصدق، لأننا في المكان الذي يمارس فيه المرء ممارسته بلا ضوابط وقوانين، وضوابطه هي قِيمه وأخلاقياته وسلوكياته الفضفاضة من كل اعتبار إلا من أحكامه هو ومن خلالها تتبدى لنا ماهية ذاته..
.
بيننا ومعنا، يثابرون في مسائل ذوقية بشكلٍ يوميّ، ورغم أن الثبات أحيانًا مُنهِك إلا أن الأخلاقيات ركيزة لدى الإنسان السويّ بصرف النظر عن المكان والموقف والزمان، خِلافًا للطرف الآخر النقيض عنهم، يُعتبَر التهذيب في التفاعل الافتراضي تعبيرًا عاكسًا على الخير في ذواتهم، ولا يمكن التغافل عنه حتى في المساحات المُترفة بعدمية القواعد..
.
سيماهم في سِماتهم .. كل أولئك المتفاعلون من خلف الستار، واختاروا أن يكونوا بتهذيبهم وكأنهم في محفلٍ رسميّ يتسم باللباقة ويُوجِب التجمّل بالآداب.