مدخل :
المنظر المهيب للمسجد الحرام والكعبة المشرفة وتلك الألوف المؤلفة تحيط بها طوافًا وصلاة وقيامًا ، أولئك الركع السجود في كل لحظة ، كانت وستظل مكان متابعة واعجاب للعالم من حولنا ، وكيف استطعنا نحن السعوديون أن ندير ذلك المكان باحترافية عالية ، ليس موسميًا ولا حتى كل شهر بل وعلى مدار الساعة ، وصار صحن المطاف يستوعب بعد التوسعة 130 ألف طائفٍ في الساعة بدلاً من 52 ألفاً.. ما جعل أي مسلم يقول : (أنتم أيها السعوديون رفعتم رؤوسنا)
.
مشهد (1) :
وأنا خارج من صلاة الجمعة في جامع حارتنا ، رأيت أحد إخواننا المعاقين فوق عربيته ، تحت هذه الشمس الحارقة من ظهيرة مايو ، واندهشت لماذا هو مازال واقفًا تحت الشمس ، حتى إذا ما تحرك – بتثاقل - صاحب الدباب ذو الأربع عجلات قليلاً – الذي كان يسد الطريق ـ ليفسح المجال لأخينا المعاق لينزلق بعربته من الطريق المخصص لها.
أصابني الحنق من تلكؤ صاحب الدباب الذي كان دبابه محشوًا بالبطيخ ، لكن أنظر ماذا حدث من طيب القلب المعاق ، الذي كان مبتسمًا ولم يغضب .. فبعد أن صار موازياً لصاحب الدباب الذي مازال في الغمارة (منشكحًا) .. رفع يديه وقال له - وهو متبسمًا - شكراً .. شكرًا.
أنا جن جوني .. حتى أنني لم أكن أصدق ما ترى وتسمع عيناي وأذناي .. كنت أتوقع (وهذا المفروض) أن يبادر صاحب الدباب بالاعتذار ، لكنه لم يفعل .
وعمومًا .. أترك لكل من يقرأ هذه السطور التعليق .. لكنني أظن أن حبيبنا المعاق كان عظيمًا في عفوه .. وكبيرًا في خلقه وصبره .
.
مشهد (2) :
ونحن نهم بمغادرة الجامع بعد صلاة العصر لثاني يوم رمضاني ، كانت تتناثر على الأرض في نهاية الجامع أوراقًا من جزء عم ، رأيت أطفالًا وشبابًا ينحرفون عن القطع المتناثرة على السجاد ، وكأن الأمر لا يعنيهم .
صحت فيهم حانقًا بما جعل عدد من المصلين ينظرون لي ويتأملون ما كنت أقوله : " يا شباب .. هل من المعقول أن تتقافزوا بجانب هذه القطع المنثورة من القرآن الشريف ، ثم لا ينحني أحدكم فيجمعها ويعيدها إلى الدولاب ؟ " .. وأضفت غاضباً : " هل هذا كل ما علمتكم إياه المدرسة والمسجد ؟ " .
كنت أقصد أن التربية مقدمة عن العلم في الشأن المدرسي ، وأن تلقين السلوك من المسجد لا ينفك عن تعليم العبادات ، بل هو نسيج أصيل متصل بها ...
الكثير من آئمة الجوامع والمساجد وكذلك الوعاظ .. يلقي أحدهم موعظة يحث فيها الناس على فضيلة أن يجلسوا بعد صلاة الفجر بالمسجد حتى طلوع الشمس للتسبيح ، ثم يتحدث عن أهمية الصوم ، وأهمية المحافظة على الصوات .. لكنهم لا يتحدثون إلا قليلًا عن السلوك ، مثل : كيف تكون أمينًا ، صادقًا ، بارًا ، متطوعًا، مبادرًا .... الخ .
وازددت قناعة بـ أن خطابنا الديني ما زال بحاجة لمراجعة ليكون فعالًا أكثر ، هو يعلم الناس أداء العبادات بكثافة ، ولا يركز على السلوكيات ، ولذا فثمة من يصلي كثيرًا ..... ولكنه قد يكذب ، وربما يسرق ، ويغتاب ويؤذي الناس في الشارع بسيارته ، وربما بسبابه .
عبادتك - لك .... ولكن سلوكياتك لي وللناس من حولك .. ولذلك يتعين علينا - مدارسًا ومساجدًا - أن نكرس في نفوس الناشئة - بجانب تلقينهم الأصول الصحيحة للعبادة – السلوكيات الحميدة ليكون الواحد منا صاحب عبادة عظيمة ، وأخلاق وسلوكيات عظيمة أيضًا .
يجب – وهذا مهم - مراجعة خطابنا الإسلامي والوعظي ، بحيث يكون خطابًا متوازنًا كجناحي الطائرة ، يقدم العبادة وفي ذات اللحظة التربية والسلوك بقدرٍ متساوٍ تمامًا .. حتى إذا ما خرجت أنت وأنا من المسجد ، كان الواحد منا أقرب لأن يكون خُلقًا يسير على الأرض ، وهذا ما يُعرف بـ (مخرجات) العبادة وأثرها .. بحيث تكون ممارساتنا سوية قويمة ، ورائعًة قدر المستطاع .