الخطابة فن من فنون العرب القديمة وهي الكلام المنثور الذي يخاطب به المتكلم جمعاً من الناس وتكون وعظاً أو ارشاداً أو ابلاغاً عن صفة معينة
وقد بلغوا في ذلك شأوًا بعيداً من الزمن عُرفوا به وانتشر في أسواقهم فكان لكل مناسبة أو شأن أو حدث كلام يخصه خطابة ، قصدت بهذا حالة كانت موجودة في أسواق مناطقنا واختفت وهي ما يعرف (بالبدوة)
ولعلي أشير إلى نشأتها وتطورها وكيف وصلت إلينا بشكلها الذي كانت عليه قبل أن تختفى بقدر المعلومات المتاحة حول هذه المسألة
البدوة .. وهي نوع من الخطابة التي كانت تُعقد في الأسواق منذ العصر الجاهلي كــ سوق عكاظ وذي المجاز وسوق مجنة وكان يغلب عليها السجع .. ومن أهم أسباب وجودها ، طبيعة الحياة وما كانوا عليه من الغزوات والظروف الطارئة والتعصب والافتخار بالقبيلة
ثم أن انتشار الأمية وقلة الكتابة ، جعلتهم يميلون إلى التعبير الشفوي .. واجمالا فقد كان يميزها الفصاحة والسجع والعبارات القصيرة ، كما كانت تحتوي على مقدمة ولب الموضوع وخاتمة
وقد اهتم النقاد العرب بمواصفات الخطيب بأن يكون ذو صوت جهوري وجمال الهيئة وقوة الحجة وربطة الجأش .. ومن اشهر خطباء الجاهلية قس بن ساعده وأكثم بن صيفي وسهيل بن عمرو ولبيد بن ربيعة وذي الإصبع العدواني
وتتنوع الخطابة بتنوع موضوعاتها فهناك الخطابة الدينية والخطابة السياسية والخطابة الاحتفالية (المصالحات) والخطابة القضائية ..
وقد كانت الخطابة في العصر الجاهلي في اسمى طبقات الفصاحة والبلاغة .. وكذلك في صدر الاسلام وفي الخلافة الأموية والعباسية .. ثم ضعف شأن الخطابة في أواخر الدولة العباسية وما بعدها لكثرة اختلاط العرب بالعجم وتولي كثير من الموالي قيادة الجيوش وعمالة الولايات .. إلا أنها بقيت في البوادي زمنًا طويلاً
وايضا في العهد العثماني كانت دائرة الخطابة ضيقة لضعف اللغة و لكثرة الاختلاط والعجمة وانتشار اللحن وعزوف الناس عن الخطابة .. إلا أنه في مصر والحجاز وسوريا كانوا يتناولونها في الامور الدينية والاجتماعية والنوادي الأدبية ..
ثم اتسعت دائرة الأفكار في عهد اسماعيل باشا أثر مجي جمال الدين الأفغاني ، وفشتْ في عهد توفيق باشا
وأنا قصدت بـ "البدوة" تلك التي كانت في مناطقنا .. واقتضى الكلام ان اتطرق للخطابة بشكل عام .. وخاصة تلك التى كانت قريبة من مناطقنا واسواقنا ، كسوق عكاظ و مجنة وذ المجاز لقربها ولكثرة مرتديها من ابناء هذه المناطق .. وخاصة ممن كان لهم ثقل معرفي وثقل اجتماعي وتجاري امثال عمرو بن حممة الدوسي والطفيل بن عمر وابو ازيهر وخاصة الحادثة التي وقعت عليه في سوق ذي المجاز .. إضافة إلى وجود بعض المنابر في الأسواق والبلدات وان كانت المراجع لم تذكر لنا الا عن منبر ثروق في دوس
وثروق بلدة عظيمة وبها منبر والاشارة إلى المنبر يعنى كان فيها خطابة والمنبر المكان المرتفع او المرقاة التي يرتقيها الخطيب ليخاطب الجمع من مكان يشرف عليهم ليسمعه ويراه الناس ولعل كلمة بدوة اتت من معنى الاشراف والظهور من مكان مرتفع فهم يستخدمون ذلك لهجة أبد وبداء وبداية على الاطلال من المكان المرتفع
يقول الشاعر" أبد يا جبريل واسرافيل ومكاييل جرها "
والبدوة نوع من الخطابة ارتبطت منذ أزمنة بعيدة بالأسواق لأنها أماكن تجمع الناس وكانت تلقى من عراق السوق وشرافاته او من على ربوه "منبر" وكانت وسيلة اعلامية هامة .. ومن المؤسف أنها اندثرت واختفت لكثرة دواعي التحضر وما توصل إليه انسان هذا العصر من حداثة ، واتمنى احيائها وتفعيلها امام النشء في سوق الأطاولة وفي المهرجان ..
ولقد كانت هذه العادة الخطابة والتي نسميها البدوة كانت تمارس في سوق الأطاولة ، وغيره من اسواق المنطقة ، بجميع انواعها من بدوه او خطابة دينيه واحتفالية وقضائية في الاحكام الوعظ و التبليغ عن أي خبر ، وشدة السوق والاعلان عن الحروب والجوار والأوبئة والامراض وغيره
ولم تكن أحيانا بتلك الفصاحة والبلاغة لقلة العلم واعراض الناس عنها و انشغالهم بالزراعة ، حتى تحولت إلى لهجة عامية وسجع متكلف يصيح بصوت جهوي مبتدئا بالتهليل والتكبير ، ويقول بعدها ... يا لامة يا سماعة الكلام حتى يلفت الناس له ، ويجتمعون حوله ، ويدخل في صلب الموضوع ويختمها بخاتمة كتلك التي في علوم الديرة والسيرة ،
وكان عندهم أدب حسن الاستماع والانصات .. وطبعا كان يقوم بالبدوة شخص خطيب أو مجموعة اشخاص المختصين المفوهين أو المرشدين او عقداء السوق وممن كان يقوم بذلك على سبيل المثال في سوق ربوع قريش خنيفس بن منضحة .. وفي ثلاثاء الكرادسه بخيت ابن هياس من الضحوات .. وسبت المندق يوسف ابن شنان من النصباء .. وربوع الصفح مقباس بن احمد ...
وفي الوعظ علي بن احمد " ال دف "وغرم الله الفارسية وابن شتحة في سوق الرومي ، وهذا الاخير منع احتكار الحبوب في سوق الرومي ، عندما أعلن أن سعر الحب خليفي ... وكلٌ شيخ حبة .. فذهبت مثلاً .
وقد شهد سوق ربوع قريش الكثير من البدوات وما يسمونها في الوثائق "طلعة السوق "والاتفاقات "الشدات والمعاهدات واحكام المخالصة في النقاء من أعلى السوق وترفع الراية البيضاء دلالة على استيفاء الحقوق ..
ومن الامثلة على ذلك الحكم الذي صدر عام 1204 الذي كتبه أحمد الرفاعي في اسقاط الخلاص "النقى" بين قريتين .
و مما يذكر أيضا في احد البدوات جرت عام 1369هـ حيث اعتلى منصة السوق أحد المرشدين يسمى محمد حمود اليماني أحد علماء اليمن – حل ضيفاً على الشيخ إبراهيم الغبيشي عندما كان يقوم بالتدريس في الاطاولة ، حيث كان يقوم بوعظ الناس في الأسواق
. " رحمهم الله جمعياً "
وهذا ما استدعى للكتابة عن هذه ظاهرة " البدوة " ... ولا أزيد على ذلك إلا كما قال الشاعر :
وين سوقٌ مثل سوق الأطاولِة عند الوفاء والكُملة