مرَّت من أمامي ترفل طفولتها في براءةٍ تتخطى الحدود، وتتجاوز حواجز المكان الذي كانت تتجول فيه، بعد أن ملَّت اللف والدوران وراء أبوين أشغلهما عنها التبضُّع، وألهاهما البحث عن الأكمل والأنسب.
في نظري لم تتجاوز الخامسة من عمرها، التفتت يمينًا، فرأت (كشك) الآيسكريم الذي انتصب إغراءً بين مجموعة المطاعم في ذلك المول، وتطلَّعت أمامها، فلاحت لها صالة الألعاب الترفيهية، والأطفال يصدرون ضجيج الفرح والابتهاج، ويتسابقون نحوها، ثم أشاحت بوجهها يسارًا، فإذ بمحل بيع الألعاب يحاذيها، كان بريق الطفولة في عينيها ينبئ عن رغبةٍ في ذلك كله، لكنَّ دوامة أحلامها تلك لم تطُل؛ فقد انطلقت من ورائها زمجرةٌ مختلطة بأنفاسٍ لاهثة، أحالت الرجاء إلى يأس، والطمأنينة إلى خوف، فتصلَّبتْ في مكانها مستسلمةً لواقع الأمر، مسلِّمةً نفسها للعقاب القادم.
وصل صاحب الصوت، لم يكن سوى (أبٍ) أعياه التسوُّق، وأخذت منه رغبات الزوجة كل مأخذ، فلم يجد متنفسًا لإحباطه وسوء مزاجه سوى ذلك المخلوق اللطيف، والكائن الصغير، فابتدره بقرصة أذنٍ أشدَّ ما تكون، كانت كفيلةً أن تُسيل العَبرة، وتخنق صوتًا مبحوحًا بالبكاء، لكنٌّ النفس المشبعة بالعنف، والقلب المغلَّف بالقسوة لم يكتفيا بعد؛ فأردف الأب الحنون بضربتين بباطن كفه على ظهرٍ لم يشتد بعد، وساق الصغيرة أمامه دونما ترفُّق.
ليست أول صورة، ولن تكون آخر صورة، ولست ألوم قلبًا فُجِع لوهلة بفقدان تلك الصغيرة، لكنني ألوم مشاعر احوَلَّت، وأحاسيس اضمحلَّت؛ فبدلاً من أن تضمِّ وتعانق فرحًا إثر لقيا، آثرت أن تتنصَّلَ من أدنى مسؤولية عن حدوث الموقف، وتصبَّ جام غضبها وسُخْطها على جسدٍ لا يحتمل العقاب، وتحمِّل اللومَ عقلاً لم يميِّز بَعدُ الخطأ من الصواب.
لا ألوم أبًا أو أمًّا لأنَّ القلب ارتجف خوفًا وفزعًا حين التفت ولم يجد بجواره طفله، لكنني ألوم من لا يعي معنى الحنان على طفل، أو يعرف كيفية التعامل مع المواقف، أو يفرِّق بين أسلوب تربيةٍ وآخر بحسب سنِّ من يتعامل معه، ونضج عقله أو قصوره.
لماذا يغامر من ليس أهلاً للمسؤولية بالزواج؟!
ولماذا يتعجَّلُ من لا يطيق الصبرَ خِلْفةً؟!
ولماذا يكون الأطفال ضحية اعتلالاتٍ نفسيةً، وتراكماتٍ مكبوتة؟!
عاجل
يوسف الشيخي

طفولةٌ موؤدة
Permanent link to this article: http://www.eshraqlife.net/articles/303927.html