في إحدى المناسبات الاجتماعية التقيت بصديق تربطني به علاقة قوية وصُحبة سنوات وذكريات ومواقف مختلفة تجمعنا حينا وتفرقنا حيناً آخر ، وعندما انتهينا من تناول عشاء تلك المناسبة ودعونا لمن أكرمنا وجاد علينا من فضل ربه وعطائه ،،، سألت صديقي : هل أنت مشغول الآن ؟ قال : لا .. فطرحت عليه فكرة أن نذهب إلى أحد المقاهي المميزة في جلساتها وخدماتها ومذاق قهوتها ورقي مرتاديها ، وأخذنا مقعدين في زواية هادئة بعيداً عن أي ضجيج ، ثم طلبنا كوب من القهوة ( هذا بالطبع لي ) وكوباً من الشاي حسب رغبة صديقي ( أعجبني أن من أخذ طلباتنا وسيحضّر لنا القهوة والشاي هو أحد الشباب الطموحين صاحب ابتسامة مميزة وتعامل راقي ومهذب ) قال لي صاحبي : بشرني كيف هي أمورك ؟ فقلت له : نحمد الله تعالى ، الأمور في أحسن حال ونشكر الله عليها وندعوه أن يديمها علينا بالخير والبركة والعطاء . فقال صاحبي : عندي سؤال عن درجات بِر الوالدين ؟؟!! فأستغربت منه !!! فسألته : ماذا تعني بدرجات ؟ فقال : يعني لو أنا مسافر وأتصلت مثلاً بوالدي وتحدثت وضحكت معه وسألته عن حاله وحاجته وما يلزمه ... هل درجة بِري به بنفس درجة أخي الذي يسكن قريباً منه ويذهب اليه ويسأله عن حاجته ؟ .. صراحة لم أستطع أن أجيبه ( خوفاً من أن أتحدث بما لست متأكد من حكمه أو جوازه أو وجوبه أو حتى تقييمه ) فقلت له : لا والله ليس لي علم بهذه المقارنة أو لدي جواب قد يكون شافياً لسؤالك ، ثم أنني أستغربت من سؤالك !! لأنني أعرفك جيداً أن مثل هذه الأسئلة ربما تدل على أن هناك أمر يضايقك ؟؟!! قال صديقي : بصراحة ... نعم ، ومتضايق جداً من أسلوب بعض أقاربي أو قل أقرب الأقارب لي ولوالدي ... فقلت له : لعله خير .. فقال لي : كنت أقرأ في أحد كُتب التفاسير عن تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن بر الوالدين ، مما جعلني أبحث أيضاً في السيرة النبوية لخير البرية ( صلى الله عليه وسلم ) ووجدت أن هناك ترغيب بدرجة عالية جداً للبر بالوالدين وتعدد أشكال البر مهما تغيرت الظروف والأحوال ، ووقعت عيني على بعض القصص للبر وللعقوق أيضاً وكانت ملهمة تلك القصص بشكل رائع ، لكن الذي لفت انتباهي إحدى القصص التي كانت تتحدث عن ( نفاق البر ) .... فقاطعته وقلت مستغرباً : ماذا يعني نفاق البر ؟
فقال صاحبي : من تلك القصص وجدت أن بعض الأبناء في تلك القصة يحرصون على البر بوالديهم ليس للبر فقط بل هناك سبب خفي وراء ذلك الاهتمام ... الا وهو ( زرع الكره في نفوس الوالدين لبعض الابناء من خلال أحدهم لكي يبقى هو في نظر والديه هو البار بهما والآخرين ليسوا كذلك ) !!!! وهذا اللي ضايقني كثيراً في تلك القصة التي قرأتها فكيف يسعى أحد الأبناء لزرع الضغينة في نفس والديه ضد ابنيهما الآخر ليبقى هو في نظرهما هو البار بهما ؟!! ( هذا نفاق البر ) ، أيمكن أن تصل تحايلات البر إلى هذه الدرجة ؟ هل الوسيلة الأفضل للبر بالوالدين والتقرب منهم يتم بالقدح والسب والكذب على بقية الإخوة ؟ هل وصلت إلى درجة إختلاق قصص كاذبة وتفسيرات خادعة وتغيير الحقائق وإظهار المثالية الزائفة حتى يكون ذلك أسلوباً من أساليب البر ؟!! ... سكت صاحبي قليلاً وقال : ( أقسى المصائب في حياتك أن ترى .. ممن تحب تنكراً وجحودا ) ، البر لا يتم بالخداع والزيف والنميمة وتغليب المصالح الشخصية والسب والقدح والغيبة في الآخرين ( والله غالب على أمره ) ، البر تعامل راقي وسمو في الأخلاق وطاعة لله عز وجل ، البر وضوح وصراحة بأدب وذوق وإحترام وتقدير ، البر لا يقوم على مصلحة شخصية فهو أسمى من ترهات أولئك المنافقين ذوي الياقات الملونة ، البر تواضع وتغافل وتسامح وتقريب وجهات نظر وإصلاح ذات البين ، البر رعاية وحماية ومحبة وقُرب وصلة بلا تقاطع ولا تناحر .... قل من يفهم البر بمعناه الحقيقي عندما يتجرد من حب الذات إلى حب الله والتقرب إليه بأجمل وأروع طريق الا وهو طريق البر . فلا نفاق ولا زيف ولا خداع ولا تلاعب وتحايل ، بل بر حقيقي يسمو بصاحبه ويرفعه عند الله ثم عند والديه وخلْقِه ، فالبر نفق يقودك الى بر الآمان فلا تجعل برك بوالديك نفاقا ...
حفظ الله أبائنا وأمهاتنا وأطال في أعمارهم ورحم الله من فقدناه منهم وجمعنا بهم في جنات النعيم ودمتم في رعاية الله ، وطيّب الله أوقاتكم .
عاجل
د/ عبدالعزيز آل حسن

نِفاقُ البِر
Permanent link to this article: http://www.eshraqlife.net/articles/315940.html
1 comment
غير معروف
11/22/2019 at 6:11 م[3] Link to this comment
مقالك بناء على سؤال افتراضي مع الأسف الشديد لم تقدم حلا ولكن اسفي شديد أنى ضيعت وقتي في قراءة مقال مثل هذا ..