التسرية عن النفس والترفيه - اجمالًا - طبيعة بشرية ، إذ لا أحد يستطيع أن يظل دائمًا مقطب الجبين ، صارم الملامح ، عبوسًا مكفهرًا ، إلا لدى الحالات النادرة القليلة جدًا ..
وإلا فإن كل إنسان لابد وأن يعطي نفسه فسحة من الوقت يلهو فيها على طريقة (ساعة .. وساعة)
بحيث يطرب مرة ويغني أو يدندن أخرى مع نفسه ، ويردد بعض الأشعار أو الأناشيد ، أو حتى حركات المزاح في بيته ومع أصدقائه .
.
هذه مقدمة لما سأقوله هنا بتوسع .. وفي زماننا هذا زادت الملهيات والمشهيات والمفرحات حتى كادت تطغى على الجديات والرصانة ، فسرقت أوقات الناس إلا القليل ، وبدأ صانعو الترفيه يجِدّون ويجتهدون في صناعة كل ما يغذي المرح ، ويسوق التفكه .
حتى صارت سوقًا رائجة بعضها يدر المال الوفير لأصحابها ، وبعضها بالمجان والبلاش لمجرد رغبة صاحبها في أن يقدم للآخرين وجبة من الفكاهة ، سواءً المقبولة نوعًا ما ، أو حتى النكات الخادشة .
.
وفي بلاد العالم الأول – المتقدم – الناس هناك فئات وأقسام منظمة ، فثمة فريق انشغل بالعمل الجدي الصارم في البحوث والدراسات والصناعات الدقيقة للحاسوب مثلاً أو لصناعة الطائرات والأدوية والمنتجات المختلفة .
وفريق آخر لصناعة الترفيه وتسويقه ونشره في الفضاء الاجتماعي ، لجس النبض ولفت الانتباه قبل أن يقرر ما الذي سيستقر عليه رأيه .
وهناك صار الناس يمرحون ويسرحون ويتفكهون في أوقات محددة لعلها في نهاية الأسبوع ، أو في مناسبات محددة ومعروفة ولأوقات معينة .
.
أما في العالم الثالث فقد خلط الكثير من الناس الأمور خلطاً وعجنوها عجنًا ، فالواحد منهم يمزح ويمرح ويتبادل كل النكات والمسليات ، حتى وهو في دائرة عمله التي قد تكون محطة مهمة لكثير من المراجعين .
بل وحتى في الاجتماعات والمناسبات الخاصة مثل زيارة الأقارب والأصدقاء وحفلات الزواجات وغيرها .
.
وكاتب هذه السطور وصلته - غير مرة - أخبار مصورة – من أكثر من جهة ، خلال اجتماع تعقده هذه الجهة أو تلك ، ثم كنت أرى في الصور المرفقة للناس المجتمعين ، أن في أيدي عدد منهم جهاز الهاتف الجوال ، يفتش فيه ويقلب صفحاته .. بينما هم في اجتماع هام - كما يزعم مرسل الخبر .
.
والواقع أنني أظل حائراً - كصحفي - كيف أنشر صور اجتماع هام لأناس نصفهم يتسلى بالجوال ، وهل يمكنني أن أجامل صاحب الخبر وأنشر له تلك الصور المخجلة ، أم أن علي أن أعتذر .. أو أن استخدم الفوتوشوب لإزالة صورة الجوال من أيدي الاشخاص المجتمعين ، في ذلك الاجتماع الذي قال أنه هام ، وربما لا ينجح الفوتوشوب تماماً في معالجة الموقف .
.
خلاصة ما أود أن أقوله أن الجوالات في هذا الزمان وفي أيدي الكثير منا ، صارت وبالاً علينا ، فهي تخدمنا قليلاً وتؤذينا كثيراً .. في حين أن المطلوب هو العكس كما هو حال الناس في بلدان العالم المتقدم .
والعجيب كذلك أن هناك أناسًا من الناس ممن كنت تظن أنه على درجة من الوقار ، لكنك تجده فجأة يقلل من شأن نفسه ، بتعامله مع توتير و وأتساب وأخواتها ، يرسل وينشر فيها ما لا يليق لا بمكانته الاجتماعية ، ولا بعمره الذي ربما زحف فوق الخمسين ، ولا بتقديره لمن هم معه في القروبات ، ومن سوف يقرأ له .
.
نعم أنت وأنا قد نرسل ما نشاء لصديق حميم جدًا - واحدًا أو اثنان - لكن أن أرسل للقروبات ، أو علي صفحات توتير ، وأمام عيون الألوف من الناس ، فإن ذلك مما يلمز جانب الوقار ، ويخدش الهيبة .
.
وبعض أولئك صار واتساب تحديدًا وظيفة جديدة له ، ولو أن أحدًا أعطاه – مثلًا - ثلاثة آلاف ريال عليها ، وقال هذه مكافأة لك على جهودك المتواصلة في واتساب (ليل نهار) لربما قصّر ولم يف بالتزامات الوظيفة .
ولكن لأنها عمل (الفاضين) والمتسدحين فقد اجتهد فيها اجتهاد العاشق الولهان (المندفع) ، حتى وصل به الحال إلى أن أخرجه عن النص في غير مرة .
.
بحيث وأنت تتابع له عددًا من منشوراته ، لا تملك إلا أن تردد ، على طريقة اللهجة الجنوبية الدارجة : (الصلاح – من الله) .