العالم من حولنا في تسارعٍ وتطور، وشركات الاتصالات أينما يمَّم المسافر وجهه في سباقٍ مع الزمن لتقديم أفضل الخدمات، بأعلى التقنيات، وبأقل الأسعار، ونحن لا زلنا في دوامةٍ ما بين (الشبكة غير متاحة) و (إن الهاتف المطلوب... ).
بمجرد أن تغادر نطاق مدينة كبرى - كمدينة جدة مثلاً - وتنطلق في رحلة على أحد الطرقات الطويلة التي تربطها بغيرها من المدن، تتلاشى شبكات الاتصال بمختلف مسمياتها وشركاتها المشغلة شيئًا فشيئًا، وكأنك تخرج من كوكب الأرض الزاخر بالحياة إلى كوكبٍ بعيدٍ خلوٍ من أبسط أنواع تلك الحياة.
ترفع سماعة هاتفك لتَطْمَئِنَّ وتُطَمْئِن، فتفاجأ بانعدام الشبكة، وتمرَّ بحادثٍ - لا قدَّر الله - فتهرع للاتصال بسيارة الإسعاف، أو دورية الطرق، أو فرقة الدفاع المدني، فيفوت الأوان، وتُلْفَظُ الأنفاس، وتخمد من تلقاء نفسها النيران، وأنت لم تحظ ببرجٍ واحدٍ مما يسمى بأبراج الشبكة الظاهرة في أعلى شاشة الهاتف، وإن كانت رحلتك باتجاه الجنوب، وقُدِّر لك أن تدخل محافظةً كمحافظة القنفذة فأنت في عداد المفقودين؛ لأن هاتفك بنسبة ٧٠ إلى ٨٠٪ سيكون خارج نطاق الخدمة، انطلق حينها في مغامرة بحثٍ عن شبكة؛ غُصْ في البحر، اصعد فوق سيارتك، استقبل القبلة، انحرف يمينًا أو شمالاً، استلق على ظهرك، انبطح على بطنك، تأكد أن الحال لن يتغير، ولن تظفر بمبتغاك؛ لأن المشكلة ليست في الموقع، أو الاتجاه، أو الوضعية، بل في سوء التغطية على مستوى محافظةٍ بأكملها، تعجُّ بين الحين والآخر بالسياح من عشاق البحر، وهواة الشواطئ والإبحار، الذين يفدون إليها من قريبٍ وبعيد، وتفاخر بالكثير من مراكز التسوق، والمطاعم، والكافيهات التي لا توجد إلا على بعد مئات الكيلومترات منها.
نعم المشكلة أن القنفذة، ومراكزها، وغيرها الكثير، ليست مدنًا كبرى - من وجهة نظر شركات الاتصالات - يزدحم داخل حدودها السكان، والرابح في سوق المنافسة فيها يرتفع مؤشره إلى سقف سوق الأسهم، ويحظى بالوليمة الأكبر من جيوب المستفيدين، إنما هي مجرد نقاطٍ استثماريةٍ متواضعة، لا قيمة لها، يمكن التناوب في الضحك على المستفيدين فيها من خلال بعض العروض، حتى إذا غُرِّرَ بهم، ووقعوا في مصيدة التضليل، ساءت خدمة الشركة شيئًا فشيئًا، لتَهُبَّ شركةٌ أخرى، وتقوم بنفس الدور، فيتحول المستفيد المغلوب على أمره إليها، وتأخذ - كسابقتها - النصيب المقسوم، ثم تنسحب من صراع الأفضلية على مَهَل، وهكذا تستمر رحى الخداع والمعاناة في الدوران، فالمواطن هناك ليس إلا من هَمَلُ الناس، وأسْقَاطِهِم، يكفيه أقلُّ القليل من الفُتات.
تتواصل مع قريبٍ دخل المستشفى لتسأل عن حاله، فيطمئنك عليه مجيب الاتصالات الآلي بقوله: (عفوًا، إن الهاتف المطلوب...)، تدخل دائرةً حكومية - كإدارة التعليم - فتفقد الشبكة بين أروقتها، تُجري اختبارًا إلكترونيًا في المدارس يتطلب أجهزةً في أيدي الطلاب - كالاختبارات المركزية - فتصاب بخيبة أمل حينما لا تجد شبكةً، أو تجدها لكنها ضعيفة، تطالب بتفعيل بوابة المستقبل في التعليم - كخطوةٍ في طريق التعلم الرقمي - وأنت تعلم أن لا شبكة في المدارس، حتى بعد مشروع أطباق الاتصال الفضائية الذي صرفت عليه الوزارة في سنةٍ من السنوات ملايين الريالات، فانهار قبل أن يقف على قدميه، تريد أن تعرض لطلابك مقطعًا تعليميًّا إثرائيًا فتَحْوَلُّ عيناك وأعينهم وأنتم تراقبون حلقة التحميل تدور في منتصف الشاشة، تدخل على رابطٍ لإتمام عملٍ مهم، أو رفع بياناتٍ مطلوبة، فتغطُّ في سباتٍ وتستفيق، والصفحة لم تستفق من سباتها، وليت السوء اكتفى بهذا الحد ولم يتجاوزه إلى انقطاعٍ كاملٍ للشبكة بالساعات.
دخلنا من باب التحول ٢٠٢٠ المُفضِي إلى الرؤية الطموحة، لكن بعض حيطان المدخل - والتي يفترض أن تكون في قمة اكتمالها وجمالها - لا زالت تشوِّه منظرها الثقوب والثغور.
1 comment
مهند بن عبدالله بن حرازي
03/10/2020 at 12:31 ص[3] Link to this comment
حقيقه مؤلمة بقلم مربي فاضل الأستاذ يوسف بن حامد الشيخي
كم افتخر بأنك من افضل المدرسين الذين علموني
فجزاك الله خير وكتب اجرك ورفع قدرك