حينما يظهر المليك على شاشة التلفاز ليخاطب شعبه، ويغالب الأب كلَّ الظروف ليوجِّه حديثًا إلى أبنائه، حينها يكون الخطب جللاً، والحَدَثُ يفوق كل وصف،فهل استشعرنا معنى الظهور، وفحوى الحديث.
دولٌ ماطلت في احتواء الأمر، وقدَّمت سلامة الاقتصاد على سلامة الإنسان، وقيادة هذا الوطن التي عوَّدت أبناءها على العيش في أمنٍ وأمان استنفرت - ومنذ اللحظات الأولى - كافة الإمكانات والطاقات لحماية المواطن، والتأكيد على أنه العنصر الأهم، والقيمة الأعلى في ميزان التقدم والتنمية؛ فأعلنت إقامة الحَجْر لئلا يختلط الصحيح بالسقيم، وكانت سبَّاقةً في تعليق التعليم، ثم بدأت في اتخاذ قراراتٍ محكِّيَّةً جريئةً لمنع تفشي الوباء، منطلقةً في كل ذلك من تعاليم الدين، وتوصيات الشريعة الغراء، التي دعت دومًا وأبدًا للعناية بالإنسان، والاهتمام به، وحفظ حقوقه، وعدم تسليمه، لأنه الخليفة في الأرض، والمَعْنِيُّ بإحيائها وعمارتها.
ثم يأتي بعد هذه الجهود العظيمة التي قامت بها القيادة، وتلك التوصيات التي وجهت بها كافة القطاعات، يأتي الاختبار الحقيقي للمواطَنة الصادقة، والانتماء لتراب الوطن، والولاء لقيادته، فتظهر الصور ما بين معبِّرةٍ عن إخلاصٍ ووفاء، ومنبئةٍ عن حقدٍ دفينٍ وجد الفرصة ليتنفس الصعداء؛ فذاك يتبرع بعقاره لإقامة الحجر الصحي، وبالمقابل تاجرٌ ينتهز الفرصة ليرفع قيمة السلعة، أو يتم القبض عليه وهو يخبئها لحين نفادها من الأسواق، ثم يظهرها بسعرٍ مضاعف، وآخر عَمَدَ إلى التخويف، والترويع، بنشر الإشاعات، وإيهام الناس بأن غضب الله حل، وعقابه نزل، لقاء الكفر والانحلال الذي حصل، وأن الساعة قد اقتربت، ونهاية العالم قد حلَّت، وكأنه ما انتشر وباءٌ في عهد محمد ﷺ، أو في العصور التي تلته (وهم خير القرون)، وكأنه - صلوات الله وسلامه عليه - لم يقل : "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"، وفي المقابل نجد من اتخذ شهرته وظهوره وحساباته منبرًا لنشر كل مفيدٍ و جديد حول طرق الوقاية، وأهمية الاستجابة لما يصدر من توجيهات وتنبيهات، وثالثٌ يتجول في الأماكن العامة، ومراكز التسوق، باصقًا هنا وهناك، معلنًا تحديه، ومُظهِرًا خيانته، وبغضه، وكراهيته على رؤوس الأشهاد، وعلى النقيض منه تتجلى صورةٌ من أجمل وأروع صور الحب والوطنية والرقي في ذاك الذي أخرج من جيبه منديلاً معقمًا وقام يمسح به جهاز الصرف الآلي قبل وبعد استخدامه؛ ليمنع نفسه وغيره من المرض، ورابعٌ، وخامسٌ، وصورٌ كُثُرٌ، لا تحصى ولا تعد لكلا الجانبين، وكلتا الجبهتين؛ جبهة الخير وجبهة الشر.
إنما كل الصور الجميلة في كفة، وفي الكفة الأخرى صورة المواطن الذي اهتم لأمره وأمر أسرته ومن حوله، فاغتنم الأمر بلزوم البيت فرصةً يطيع فيها ولي أمره، ويعوِّض من خلالها عن كل لحظةٍ أضاعها بعيدًا عن والديه، وزوجته، وأولاده، فقسَّم وقته متلذِّذًا ما بين مؤانسةٍ، وملاعبةٍ، ومسامرةٍ، ومعاونة، واتصالٍ لتجديد العهد أو صلة الرحم، مبتعدًا عن التجمعات والمخالطات التي تسببت في انتشار المرض، وارتفاع نسبة الإصابة.
إن ما ألزمنا بيوتنا عن إقامة الجمع والجماعات، لهو أولى أن يُلزِمنا إياها عن قضاء احتياجات، أو إنهاء التزامات أخرى يمكن تأجيلها أو تهميشها، وما انقطع طاعون عمواس الذي نزل بأرض الشام على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن التفشي والانتشار إلا بعد أن أمر عمرو بن العاص الناس بالاعتزال، والتفرق في الجبال، كنوعٍ من الحَجْر، والابتعاد عن الخُلْطة المؤدية إلى العدوى، ومع ذلك نجد من يلزم العصيان، ويُصِرُّ على الخروج؛ استهانةً واستهتارا، ثمَّ إن أصابه ما أصاب غيره - بما كسبت يداه - قام يعضُّ أصابع الندم حين لا ينفعه، ويبحث بكل وسيلة عما يُذهِبُ الداء ويرفعه.
كفانا الله والمسلمين كل شرٍّ وبلاء، ورفع عمن ابتلي بهذا الوباء، فإليه ترفع الشكوى، وهو المدبر لكل قضاء.