إلى زمن قريب ، كانت الناس في بلاد الشام تخشى من إرسال أبنائها إلى الشارع لكي لا يختلطوا برفاق السوء ويكتسبوا عادات ذميمة تهدم التربية ، وتخلّ في الآداب ، وكانت معظم العائلات الكبيرة تتقيد بالأعراف الاجتماعية السائدة ، وتطبق مقولة " جنة الأطفال في منازلهم " ، وتتباهى بأن أبنائها يقضون أكثر أوقاتهم في البيت ( بيتوتيين ) ، ويعيشون حياة صحية لم تلوثها حلوى الباعة المتجولين ، ولم تفسدها ثقافة الأولاد المتسكعين ، في هذه الأيام حيث بات العالم كله يصارع فيروساً أشرس من الغول وأخطر من قاطعي الطرق ، يقتل ضحاياه بدم بارد ،وينذر الآخرين بالويل والثبور ، صار من الضروري جداً أن نحجر أنفسنا في منازلنا، ونغير من أسلوبنا عند التحية والسلام ، وأن نبتعد عن بعضنا البعض أثناء الشرح والتفصيل ، وأن نفعل مصطلح " فرق تسد " ، بمعناه الانساني ، وأن نأخذ في الاعتبار النصيحة التي تقول " اترك مسافة .. قبل الحسافة " .فقد علمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة حتى نفهم ما نكتب ، وعلمتنا أنظمة المرور أن نترك مسافة سيارة بين المركبة والثانية كي لا يحدث التصادم ، وعلمتنا الحياة أن لا نرفع سقف توقعاتنا من الآخرين حتى لا نحبط وتنهار العلاقات ، وأن لا نبالغ في درجة التقارب منهم كي لا يشعروا بالاختناق ويلوذوا بالفرار ، وأن الأجدى هو في ترك مسافة أمان بيننا وبينهم تبقينا على الدوام في محبة ووئام .
هناك قصة رمزية ذكرها الفيلسوف الألماني ( شوبنهاور ) تشير إلى أهمية هذه المسافة ، قال فيها : " إن مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها في إحدى ليالي الشتاء المتجمدة طلباً للدفء ، وهرباً من الجو الجليدي شديد البرودة ، لكنها لاحظت أنها كلما التصقت ببعضها أكثر كلما شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها ، مما يسبب لها المزيد من الألم ، وأنها كلما ابتعدت عن بعضها شعرت بالبرودة وتجمد أطرافها ، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها ! وقد استمروا على هذه الحال بين ألم الاقتراب ، وهجيرالانفصال إلى أن توصلوا الى المسافة المناسبة التي تقيهم برد المكان وألم الأشواك ".
أعزائي : دعونا ونحن نقرّ حالياً في منازلنا ، أن نضبط ايقاعنا اليومي ، نتحاور مع أفراد أسرتنا ، نتعرف على أطفالنا ، نكثف من قراءاتنا الفكرية ، ولا ننسى أن نترك المسافة الضامنة فيما بيننا ، فهي التي ستبعدنا في الجغرافيا مؤقتاً ، ولن تباعدنا عن القلب والروح أبداً .
2 pings