قد تختلف وجهات النظر بين الناس في قضايا شتى وقد تتضارب الآراء حول قضيةٍ مُلِحَّةٍ حيّرت الألباب ؛ لكنها لا تختلف حين يكون الأمر متصلاً بمفهوم الانتماء إلي الوطن فهنا لاتوجد منطقة وسطى فإما أن نكون جميعاً داخل دائرة الوطن ندور حول مركزها وهو التماسك المجتمعي ، وإما أن نقع خارجها مشتتين ومتنافرين فلا يجتمع ضدّان على خير أبداً مهما تزينت الأهداف وتلوَّنت بألوان الوطن.
فمن يرى أن حب الأرض وعشق الهُويَّة نوعاً من الخبل ومخالفاً للمعقول بل يصل الأمر ببعض المارقين أنهم يرونه نوعاً من الشرك _والعياذُ بالله _ فيقولون قد صنعتم من الوطن وثناً يُعبد من دون الله فالوطن هو العقيدة وليس الأرض على حد قولهم ؛ فاقول لأولئك ألم تكن مكة المكرّمة أحب بقاع الأرض إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم و كما قال مخلصاً ؟
( ولولا أهلكِ أخرجوني منك ماخرجت .....)
ونزل في هذا الأمر قرآن يُتلى إلى يوم القيامةكما في قوله تعالى :
( إِنَّ الَّذِيْ فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَيْ مَعَاْدٍ )
القصص آية ٨٥
ومَعَاد هنا بمعنى مكان والمكان هنا الوطن والأرض التي إليها ينتمي وفيها المولد والمنشأ ؛
قال تعالى :
( لَقَدْ كَاْنَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلُ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَاْنَ يَرْجُوْ اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيْرَاً ) الأحزاب آية ٢١ .
والسؤال الأهم هنا كيف نُبرهن على حب الوطن ومامظاهره وآليات تلك المظاهر ؟
فالإنسان يولد وفي جينات تكوينه خرائطٌ مطبوعة بحب الأرض التي ولد عليها وتربى على مما تنبتُ من بقلها وقثْائِها وفومها وعدسها وبصلها ومشى على ترابها وتفتحتْ عيناه على ضوء شمسها ولذا يكون حبُ الوطن من نسيج هيكله البشري فيدافع عنه بكل مايملك وفي أي موقعٍ كان كلٌّ في مكانه حارساً لمقومات الوطن وثوابته وهويته.
فحين تهبُ رياحُ الشرِ والخسة تريدُ اقتلاع الجذور والثوابت فلابد أن تنتصب رايات الحماية عسكرية كانت أومدنية فالعسكريةُ جيشٌ وعدةٌ قائمة على الدفاع والمواجهة فلا يفلُ الحديدَ إلا الحديدُ ؛ والمدنيةُ عقولُ قادرة مستنيرة تكون هي حائط الصدّ لقوى الشرِ التي تريد بالداخل تفككاً وانهياراً وتكون المواجهةُ بالكلمة والصوت والصورة فهذه المكونات هي التي ترسِّخ قيمة الانتماء وتُعْلي من قدرة البشر على تحمُّل الصعاب الناتجة عن تبعاتٍ أوجدتها عقارب الانهيار التي تحاول أن تزلزل المبنى من الداخل لينهار فيكون أثراً بعد عين وتعمل على نشر روح اليأسِ والقنوط، وقتل الأمل في غدٍ جديد مشرق .
فسلاحها ناعمٌ نعومة ملمس الحية الرقطاء فهي تُسَفِّه كل فضيلة وتقبِّحُ كل جميل و تقلِّل من شأن كلِّ إنجازٍ وحلم ؛ فعندما تنسل سيوف المواجهة لتصدَّ تلك الرزايا وفضح مخططاتها وتوضيح الصورة كاملةً بجميع تفاصيليها فيراها من ضعُفت بصيرته وَوَهَنَتْ همَّته حتى لا تترهَّل قوى المجتمع وتذبل روح الأمل فيكون الوطن عندئذ لقمة سائغة لآكليه الناهبين لخيراته ومقوماته ؛ وتتعدد سيوف المواجهة مابين كلمة وصورة وصوت ؛ فهل نقول حينها إننا ننافق الوطن وندق طبول الرِّياء من أجل مكسبٍ هزيل أو منصبٍ زائل، أو أننا نعبد الأشخاص ونقدِّس خطواتهم فالقائلُ بذلك هو أحد الصنفين إما حاسد غبي يفتقد الدور الذي يؤهله ليكون ضمن جيش المواجهة أو ذَنَبٌ من أذناب ثعابين الاقتناص التي تحاول بثَّ سمومها في جسد الوطن المقاوِم ؛ ولذا لم يكن الدفاع عن الوطن بكلمة أوصورة وصوت في يوم من الأيام نوعاً من النفاق بل هو الجهاد من أجل الوطن .
ونحن في بلاد الحرمين الشريفين لناوضع يختلف عن غيرنا فمسؤوليتنا عظيمة تجاه المحافظة على وطننا الذي يحتظن على أرضة المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يترتب على وجودهما من مسؤوليات كبييرة تجاه المحافظة على سلامة الزوار والحجاج والركع السجود ؛
وفي هذا السياق يقول أحمد شوقي :
وطني لو شُغلتُ بالخلدِ عنهُ
نازَعتنِي إليهِ في الخُلدِ نفسِي ...