يقول الشاعر :
(الشيب ماهو عيب يا معذرب الشيب
الشيب في راس الولد له ســـــبايب
.
اما كريمٍ شاب يبحث عن الطيب
ولا شــــجاعاً عذبـته المصـايـب)
.........
بداية أود أن أشكر ذلكم الإنسان الذي اخترع صبغة الشعر، بحيث صار اختراعه ذاك، مما يحوّل ذقوننا من اللون الأبيض إلى الأسود أو البني.
.
أشكره أصالة عن نفسي ونيابة عن كل "الصباغين" - نسبة للذين درجوا على صبغ ذقونهم وشواربهم ورؤوسهم - والذين ما فتئوا (يعرّجون) على الصيدليات بين عشية وضحاها، لابتياع ما يروقهم من أنواع وألوان ذلكم المنتج العجيب.
.
والواقع أن أحدنا ليعجب عندما يلتقي في المناسبات العامة وغيرها، بأحدهم ممن كان قد غاب عنه لسنوات، ثم يراه مجددًا وقد خط الشيب عارضيه، أو أكتسح البياض شاربه، ثم لا تلبث أن تتعجب.
فهذا كان طفلًا عندما كنت أنت شابًا .. فكيف اعتراه الشيب، وهو ما زال في ريعان المرحلة الأخيرة من شبابه - لنقل بين الـ 35 – 40 من عمره ؟.
المختصون قالوا إن من الأسباب : العوامل النفسية، والانفعالات الشديدة - كالخوف والحزن والهموم ونقص التغذية ...الخ
.
وعمومًا فإن الذي اعتدناه أن الشيب لم يكن يغزو الرجال إلا عندما يكبرُ سن أحدهم، ليصل - مثلا - إلى الـ 60 أو ما بعدها .. وحينذاك يكون قد شاب شعره، وأحدودب ظهره، وسقطت نصف أسنانه.
عندها يمكن لنا من دون عضاضة أن نبتدره - في فاصل مزاح خفيف لطيف - لنقول له مثلًا : "مرحبًا بالشايب الحبيب".
حينها سيتبسم، ولن تظهر عليه أمارات الغضب، لأنه صار مؤمنًا أنه فعلا صار "شايب".
.
لكنك لا تستطيع أن تتلو نفس المزحة أعلاه، على شاب في الـ 35 .. فالغالبية منهم سيراها قدحًا وانتقاصًا من "شبابيته"، وإن كان واقع الحال يقول إن ثمة تناقضًا محيرًا أمامك.
فالرجل ما زال - بالفعل - يرتع فوق "شواطئ الشبابية" هكذا تقول سنوات عمره .. لكن هيئته - لون الشعر الأبيض وقد بدأ يغزوه - تقول العكس .. تقول أنه قد بدأ يزحف "مبكرًا" نحو المشيب، وأنه قد وضع قدمًا - بالفعل - في (نادي الشيبان).
.
والواقع أنه ليس جديدًا القول إن صبغات الشعر الطبيعية من النباتات وغيرها كانت معروفة منذ ما قبل الميلاد.
لكن الذي أقصده - هنا - هو الصبغات الكيميائية الحديثة، على يد مخترعها قبل أكثر من قرن، وهو خواجه - عالم فرنسي - من بلاد ما وراء البحار، من أولئك الناس الذين درجوا منذ أمد بعيد على الانكباب في معامل الأبحاث اختراعًا وابتكارًا.
فيما أهل العالم الثالث ينتظرون (أفضل من كلمة يتفرجون) ..... ليتلقفوا ما يضخه لهم أولئك القوم، ثم نتدفق نحن بعد ذلك على الشراء زرافات ووحدانًا - كأمم مستهلكة.
.
ثم أن من - اللافت أيضًا - أن أخواتنا النساء قد دخلنا - هن الاخريات حلبة السباق معنا نحن الرجال، وصرن يبتعن من تلك الصبغات، ما يلون ويزركش شعورهن.
ليس إلى هذا الحد وحسب، بل وتجد منهن من تترقب الموضة للسنة الجديدة بفارغ الصبر، فتتلفها وهي لا تلوي على شيء. فتختار ما يروقها من ألوان الشعر .... بدءًا من الباستيل، إلى البني الكراميل، فالبني الشوكولاتة، والبلاتيني، والأشقر، والأحمر .... الخ.
,
وأظن أن من حسنات زمن كورونا - إن كان له حسنات - أنه قد أرح خلقًا كثيرًا من "الصباغين" - وأنا منهم - من مواصلة طلاء شعورنا بتلك الأصباغ، ولو لفترة مؤقتة.
فأحدنا يخرج ملثمًا - مرتديًا الكمامة حتى يعود إلى داره ثانية، من دون أن يرى أحد منه سوى عينيه وجبهته – (ولا من شاف ولا من دري).
.
وأخيرًا ... يقال أن الشعر في أصله هو أبيض .. لكن البصيلة الموجودة في كل شعره، والتي تمدها باللون حسب البيئة، أنها مع التقدم في العمر تختل العلاقة مع مادة الميلانين نتيجة لقلة عدد الخلايا الصانعة لها، فيختفي اللون ويعود الشعر إلى أصله "الأبيض"، والله أعلم.