ما زلت أتذكر أول مرة رأيت فيها البحر ... بحر جدة ..
فقد كان ذلك بعد أنهيت دراستي للمرحلة المتوسطة في بلدتي الأطاولة بمنطقة الباحة .. عندما حزمت حقيبتي متوجهًا إلى جدة، أطلب الدراسة للمراحل اللاحقة.
.
وكانت مسألة زيارة بحر جدة واحدة من أحلامي، التي طالما انتظرتها منذ عرفت أنني سوف أقصد مدينة تتوسد البحر، وتلتحف التاريخ، وتتماهى من الحضارات.
ولقد كنت من محبي مادة الجغرافيا، ومن الذين يعشقون رسم الخرائط الجغرافية، وتأملها، ومعرفة مواقع البلدان والعواصم والبحار والمحيطات والأنهار ... كنت ولا زلت شغوفًا بذلك أيما شغف.
.
ومازلت ـ وربما زملائي يتذكرون ـ تلك الحظوة التي كان يمنحني إياها معلم الجغرافيا – الشامي - في مدرستنا - الأطاولة المتوسطة.
.
ومن واقع حبي للجغرافيا كنت تواقًا إلى اكتشاف كل مدينة أو بلد أو مكان أزوره .. أحب أن أطوفه منذ اللحظة الأولى، وأعرف سمات أهله، وحدود مكانهم، وأطراف بلدتهم، ومعالمها وآثارها ومكوناتها.
.
ولذلك فإنه عندما استقر بي المقام في جدة، كأول مدينة أخرج إليها من قريتي، طفقت أسعى صوب بحرها، في رغبة عارمة للوقوف على ذاك الذي يشبه اللغز بالنسبة لي، وكنت أرنو إلى تصوّر رؤية ذلك المسطح المائي المهيب.
وكيف يتعامل معه الناس، وإلى أي مدى تصل العلاقة التواصلية بين الإنسان بفكره وإبداعه وحاجاته من ناحية، وبين البحر بغموضه وأسراره وخيراته وغدره.
وإلى أي مدى تصل الحميمية بين الاثنين لبناء علاقة تبادلية، تصل في نهاية المطاف إلى تسجيل حالة من العناق الوجداني بين الطرفين.
.
وعندما كنت أقف أمام الشاطئ مباشرة، راحت حالة من الانبهار الشديد تجتاحني، فيما صاحبي الذي كان يرافقني وعرف البحر وشاهده قبلي، يتبسم ضاحكا - بجانبي - من حالة التمازج الوجداني التي تلبستني لحظة ئذ.
وقد كان من حسن حظي أنني جئت للبحر لأول مرة، في واحدة من أجمل لحظات رؤيته، فقد كان الوقت يناهز ساعة ما قبل الغروب، والشمس تقترب من طبع قبلتها الحميمية اليومية على صفحته الواسعة في الأفق البعيد.
.
وعندما كان ذلك المساء يحط على الشاطئ الجداوي، بعباءته الداكنة، كانت الأضواء من حولنا تبدد كل محاولاته لإغراق المكان في بحر من الظلام، فبدأ المكان يتلامع بالأضواء .. وأحسست لحظتها أنني قد عبقت من كأس البحر، ورويت جزءًا من ظمأي الطويل لرؤيته، واكتشاف شيء من أسراره، ولغزه، وحكايته السرمدية الطويلة.
.
ومن خلال بحر جدة تعلمت إلى حد ما بعض مهارات السباحة، بعد أن كنت بدأت التجربة في بلدتنا من خلال غدران المياه، التي كان تتكون في الأودية نتيجة الأمطار الغزيرة المتلاحقة، التي كانت تحط على البلدات والقرى في تلك الأيام.
لكن مع شُحها – مؤخرًا - تلاشت نضارة الأودية ، وغابت ملامح الخضرة، واختفت أصوات العصافير والضفادع وخرير المياه التي نشأنا عليه في طفولتنا، وكنا مثل فراشات تتقافز فوق الحقول والجداول، وحول أشجار اللوز الحجازي.
.
ولقد كنت مثل غيري من المؤمنين بأهمية أن يتعلم الإنسان السباحة؛ كمهارة يمكن لها أن تخدم صاحبها في حالات الطوارئ، فوق كونها رياضة يحتاجها كل أحد.
ولعل الأثر الذي قيل أنه منسوب لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أكبر المحفزات، لحث الإنسان - والشباب خاصة - على اتقان السباحة، عندما قال : " علموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل ".
.
وإن كان هذا لا يعني التوقف أمام تعلم هذه المهارات فقط، بل لابد من اضافة كل ما يحتاجه العصر، خاصة في أيامنا هذه.
حيث صارت "اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي" من المهارات التي يمكن إضافتها إلى ما سبق ... لتكون بمثابة حزمة من المهارات التي يتسلح بها الإنسان في مواجهة الحياة .. وإلا فإنه سيجد ذاته رقمًا مهملًا .. بل وفي وضع محرج في عدة مواقف.
.
والواقع أنه لا شيء صعبًا في هذه الحياة مع الرغبة والإصرار .. وكمثال حي رأيته بأم عيني .. ففي احدى رحلاتنا الإعلامية خارج البلاد فوجئنا بأحد رفاق الرحلة وهو (بلبل في الإنجليزي) .. وسألنا عن الجامعة التي درس بها .. وإذ به يفاجئنا بأنه علم نفسه بنفسه .. من دون دورات ولا دخل جامعات.
.
وثمة من تجده في مستوى (فوق الجيد) في اللغة العربية، بل وأفضل بكثير من خريجي الجامعات المتخصصين في اللغة العربية، لأنه (اشتغل على نفسه) - كما يقال - وطور أدواته بالرغبة والاصرار .. حتى امتلك بعض مفاتيحها وأسرارها.
.
واستطرادًا .... فإنه حتى (لغة الحوار) العادية اليومية بين الناس، إنما هي (مهارة) من المهارات، يمكن أن يكتسبها المرء مع الأيام .. فتجده لبقًا ودودًا .. خفيفًا لطيفًا مع الأخرين تارة .. ومقنعًا ومؤثرًا تارة أخرى.
وأظن أنه لا عذر اليوم لأحد .. في عالم صارت فيه المعرفة متوفرة ومتاحة بين أيدينا، بل وأقرب إلى كل واحد منا من أرنبة أنفه.
..
طوّر نفسك بنفسك، قبل أن تمسي في أخر الصفوف؟