خلال الصيف الماضي، وأنا أعبر طريق الجنوب الرئيس، الذي يخترق جانبًا من وادى (بوا) الشهير – على مسافة متاخمة قليلًا لمنطقة الباحة - شمالًا، والذي طالما ظل يأسرني - وبالتأكيد الكثيرين غيري - بمفاتنه التي لا تقف عند حد.
مزارع تنتظم متراصّة على ضفتي الطريق، حافلةٌ بالخضروات والنخيل، وخُضرة آسرة على امتداد النظر – لوحة بصرية ولا أروع.
.
حينذاك توقفت أمام مزرعة نخيل هناك، وتداعت إلى ذاكرتي هذه الأبيات الشعرية، من لون (الكسرة) الينبعاوية الجميل:
شفت النخل لانحنى جذعه
وصارت قلوبه مهب الريح
مثله - فؤادي نشف نبعه
حتى عروقه بُكت وتصيح
.
وعلى أية حال فإن ما يهمنا هنا، أن لدينا أودية كثيرة في طول بلادنا وعرضها، كانت في يوم ما جنانًا غناء، ومنها مازال ... بينما أخرى بدأت مع الأيام عدها التنازلي إن في تناقص المحصول، أو ضعف المورد المائي، أو انصراف أهلها عنها .. ومن تلك الأودية وادي (بوا) ذلكم الوادي البهي، الذي يزخر بمزارع النخيل والخضروات. لكنه ما زال يُخبئ بين جنبيه الكثير، مما لم يُستثمر بعد.
.
ووادي (بوا) لمن لا يعرفه، يتخذ مكانًا على طريق الطائف - الباحة، شمال مدينة الباحة بنحو 90 كم .. وخلال توقفي هناك لدقائق رأيت عددًا من المزارعين أو العاملين فيها، وهم يدفعون بإنتاج نخيلهم – عذوق البلح – للبيع على قارعة الطريق.
.
المشهد في حقيقة الأمر كان لافتًا، فبيع (البلح بالعذق) لم يعد سائدًا بشكل واسع، كما كنت أراه وأنا طفلًا في سوق بلدتنا الأطاولة – سوق الربوع الأسبوعي –
ولذلك السبب شدني الحنين للماضي، ما استوقفني مع غيري من المسافرين، ودخل كل منا في حالة (مفاصلة) على السعر مع أولئك الباعة، الذين حددوا سعر (العذق) الواحد في حدود (40) ريالاً، وهو الأمر الذي اعتبره بعض المسافرين - ممن كانوا يريدون الشراء - سعراً مرتفعاً.
.
لكن الجميل في المسألة أن أولئك الباعة كانوا على قدر من المرونة في السعر، وقد اكتشفت ذلك بنفسي، عندما طلبت من أحدهم أن يبيعني عذقًا (محترمًا) ، لم أقو على حمله، فأودعه البائع في حقيبة سيارتي – مشكورًا - بسعر معقول، ثم انطلقت فرحًا، لا ألوي على شيء.
.
وخلال عبوري للطريق كنت أشاهد مزارع على جنبات الوادي يمينا وشمالاً، وكانت عذوق البلح تتدلى من أعناق النخيل - كقلائد على جيد حسناء - في منظر جميل لا تخطئه العين.
.
وساهم في نجاح زراعة النخيل هناك أن الوادي بالأصل وفير المياه، حيث تغذيه عدة أودية وروافد من جبال قريبة وبعيدة.
ويمكن له إن (يسيل) عدة (سيلات) خلال العام الواحد، ولذلك فهو حافل بالمياه الجوفية، وأحياناً السطحية.
.
وما على المزارع في وادي (بوا) سوى أن يحفر عدة أمتار قليلة حتى يجد الماء الوفير، ومن خلاله يمكن له أن يروي مزرعته الحافلة بالنخيل، وأيضاً بالخضروات الأخرى، ومن بينها الطماطم والفلفل وعددٌ آخر من الخضروات الموسمية، التي يمكن لها أن تشكل مردوداً مادياً طيبًا لزارعيها.
.
وعطفًا على السطور أعلاه .. ومن خلال الواقع المُشاهد ..
فإن وادي بوا .. يمكن أن يصبح واحدًا من السلال الغذائية لكل من محافظة الطائف، ولمنطقة الباحة تحديدًا بحكم قربه منها، شريطة زيادة دعم الزراعة والمزارعين هناك من قبل الجهات الرسمية، ودعم التسويق، ورفع معدل التشجير.
.
وفوق ذلك يمكن لذلكم الوادي البديع، أن يصبح (منتجعًا) سياحيًا مختلفًا، وذا مذاق مختلف ... لم لا ؟
بعد أن يجد المزيد من الاهتمام، والدعم اللوجستي، والبنية التحتية الكافية من الجهات الرسمية المختصة.. بما يجعله استراحة فارهة للقادمين والمغادرين من وإلى جنوب المملكة - والباحة خصوصًا.
.
ويمكن – حقيقة - إقامة نُزلًا سياحية على جنباته، تتألف من (كرفانات) ومن (بيوت شَعر) يتم إقامتها بشكل أنيق، وضمن مواصفات معينة، وبإشراف من قبل البلدية، على طريقة مشروع استثماري تطرحه الجهات الرسمية للمواطنين.
.
وأتوقع بكثير من الأمل، أن يقضي السائح والمسافر في - المنتجع الحلم - ليلة أو أكثر، في مناخ من الاستجمام لا ينسى، وسط وادٍ أخضر، وطقس جميل .. وسيزداد الجمال جمالًا، لو تصادفت إقامة السائح هناك، مع حالة مطرية تكون فيها مياه الوادي "تجري".
.
ما قلناه هنا فكرة مبسطة .. ومشروع حُلم قادم .. أظنه يتسق مع رؤية بلادنا 2030 .... ومن يدري، فقد يأتي بنتائج لم تكن في الحسبان ....
يبقى المهم ... من يعلق الجرس؟