قبل سنوات التقيته في إحدى المناسبات، في حديث عابر، كان شيخًا عجوزًا على وجهه مسحة حزن، أثارت فيّ مشاعر العطف وهو يروي لي حكايته، حكاية كشفت لي قسوة الماضي، فتح قلبه بتلقائية الكبار المعتادة .. وقال كل شيء ...
منذ زمن بعيد كان شاباً نزق الطباع، يعمل في مدينة سحرته أجواؤها الصاخبة، كان يتودد صداقتها هرباً من شظف العيش في القرية.
وفي يوم من الأيام تقدم أهله لخطبة إحدى الفتيات كزوجة له، لم يكن يعرف عنها شيئا، "كانت قريتها بعيدة عن قريته"، غير أنه رآها في المنام وهي تُزف إليه في ثوب عرسها، كانت زهرة بيضاء نقية، يتدلى من ظفائرها شلال من سلاسل الفضة، ترتدي ثوباً أسوداً مطرزاً بخطوط ذهبية تمتد من الأعلى إلى الأسفل أضفى عليها جمالًا وجاذبية.
تزوجها على عجل وهو شغوف بلقائها.
لم يتجاوز اهتمامه بها وبقائه معها - بعد الزواج - أكثر من عدة أيام، حتى عاد إلى صخب المدينة، تركها وحيدة بلا أهل ولا زوج، كانت في نظره ساذجة، ليست هي التي رآها في الحلم..!!
ابتعد عنها سنوات طوال، نسيها أو تناساها بالأصح.
كان التجاهل وآلة الزمن تنهش معنوياتها، وهو يعيش داخل صخب غرائزه مستمتعاً بضجيج ملهاته ومتلذذًا بتفاهاته.
بعد أن أقعدها المرض تساءلت بحرقة؛ أين زوجي؟
لم يهتم لحزنها أحد، انسحبت إلى داخلها وملأها اليأس والإحباط والكآبة.
عاد إليها في مساء شتوي بارد، وجدها مهملة ومرمية في إحدى زوايا البيت، كانت ممتلئة بالجروح، شهق عند رؤيتها، يالله..!! مالذي حدث لك؟ كانت عيونها مكتظة بالدموع تبكي أحلامها المتعثرة وروحها الممزقة، كانت تتجرع آلامها لوحدها، أغمضت عينيها حين رأته، هز بؤسها نفسه هزا ًعنيفاً.
اقترب منها، وبيدين مرتجفتين رفع رأسها وأسندها على حجره، كانت نحيلة ومضطربة، طلبت منه إخراجها إلى ساحة البيت الخارجية، رفض في البداية خوفاً عليها من شدة البرد لكنها أصرت، حملها برفق، كانت خفيفة كالريشة، شعر بجسدها يتفتت ببن أصابعه، جمّد الضوء عينيها للحظات، كانت الشمس تتهيأ للغروب، رفعت بصرها للسماء، شق نظرها طُرقاًومسارات عبر الفضاء، لم يعد لي متسع للعيش وسط عالماً خالياً من الرحمة، - هكذا قالت له في حزن -
صعدت روحها عبر سحب صغيرة حمراء كانت تنتظرها، دفعتها الرياح على مهل، وحملتها إلى عالم ليس للمحرومين فيه مكان.
...
(*) كاتب وقاص
3 comments
غير معروف
01/11/2021 at 10:51 م[3] Link to this comment
ررروعه
أحمد مسفر داحش الغامدي
01/12/2021 at 12:08 م[3] Link to this comment
تحياتي لك أبا عبدالله على أسلوبك الرائع وعلى إبداعك في جذب القارىء على المتابعة لنهايتها زادك الله من واسع فضله ووفقك وسددك?
حسن بن عايض
02/21/2021 at 9:48 م[3] Link to this comment
رفعت بصرها للسماء، شق نظرها طُرقاًومسارات عبر الفضاء، لم يعد لي متسع للعيش وسط عالماً خالياً من الرحمة، – هكذا قالت له في حزن
مبدع استذ محمد حفظك الله