أوه، يا للروعة! لقد حلَّ الشتاء، وقصُر النهار، وطال المساء، وبردت الأجواء؛ إنه حلم كل مسكينٍ مثلي، قضى فصول السنة بين الغبار ودرجات الحرارة الحارقة، وهو يشتري أعواد الحطب، ويخزنها - طبعًا قبل أن يصدر القرار بمنع الاحتطاب، وفرض الغرامات، حتى لا أُتَّهَمَ بمخالفة الأنظمة - ليتمتع بالسمر، ويسعد قليلاً بمغازلة القمر، بعد أن صنع دلَّة قهوةٍ يحتسيها مع بعض حبَّات التمر، أو إبريقًا من الشاي (المحكور) على الجمر، أو بعد ممارسة الشواء - إن كان من هواته - على سطح البيت أو في الفناء، أو حتى خارج البيت في العراء.
نعم دخل الشتاء بعد حلم طال انتظاره، لكنه جاء مصحوبًا بضيفٍ لا رغبة لأحدٍ في حضوره؛ لأنه ثقيل دم، بل لا أظنه يملك شيئًا من الدم أصلاً؛ فلو كان يملكه ما تطفَّل علينا، ومدَّ خراطيمه ليمتص دماءنا، والأنكى من ذلك والأشنع أنه لا يكتفي بقلَّة الذوق وامتصاص الدماء، بل يزيدُ وقاحةً بمهاجمة الأيدي التي امتدت له وسَقَته خلاصة دمها، والسيقان التي حسرت له عن مفاتنها ليدغدغها قليلاً قبل أن يضفي عليها شيئًا من الخَدَر؛ حتى يأمن على نفسه الأذى والضرر، ثم ينقلب عليها نهشًا ولسعًا وشفطا؛ فلا يغادر إلا وقد أُتْخِم، وأُثقِل، وما عاد يقوى على الطيران، بعد أن امتلأ منه الكرش، وخلَّف وراءه القروح والجروح من آثار الحكِّ والهرش.
بالطبع لم يخْفٌ عنكم المقصود، نعم إنه البعوض، ذاك الذي إن استبطأ خروجنا مع الأبواب رابطت أسرابه عندها حتى تُفْتَح، فوَلَجَ معها دون استئذان، وانتشر في كل شبرٍ ومكان، ليمارس هوايته في الطنين عند الآذان، فنحن وإياه في كرٍّ وفر، لا نهنأ بنومٍ، ولا عملٍ، ولا قراءةٍ، ولا جلوسٍ في مقر، ولم يكتف بالبيوت، بل تربَّص بنا في كل مكان، ودخل معنا حتى إلى المساجد، لا للصلاة طبعًا، بل لإشغالنا عنها، فاجتمع علينا أمره وأمر الشيطان؛ لنخرج من صلاتنا دون خشوعٍ، ولا إقامةٍ لشيء من الواجبات أو الأركان. أتى على ما تبقَّى فينا من دماء نحن في أمس الحاجة إليها، ثم يأتيك بعد ذلك من يقول لك: يا أخي أنت ما عندك دم؟! ولو رأى حالي (والبعوض يرابط فوقي ليل نهار، يقيم الولائم، وينادي بالعزائم، في ظل غياب الجولات، وعمليات الرش بالمبيدات، التي كانت تقوم بها سيارات البلدية) لما سأل هذا السؤال.
لذا فإني ومن على هذا المنبر أرفع شكواي إلى الله عز وجل - أولاً - أن يكشف عنا ما نحن فيه من ضر، ثم أوجه رسالةً عاجلةً لمسؤولي ورجال مكاتب البلديات أن يتقوا الله في دمائنا، وسلامتنا؛ فالبعوض أخطر ناقلٍ للأمراض في ظل ما نحن فيه من ظروف، وأحبُّ أن أطمئنهم إن كان تأخرهم خشيةً من ضررٍ يصيبنا إثر تعرضنا للمبيدات والسموم أننا - ولله الحمد - مقاومون لها، محصَّنون ضدها، فقد كنا في صغرنا نطارد سياراتهم، ونجري وراءها (كنوعٍ من اللعب والمرح) وهي تنفث دخان مبيداتها في وجوهنا، بل كنا نفتح نوافذ البيوت والأبواب ليدخل الدخان من خلالها، ويقضي على ما بها من حشرات، وها نحن اليوم - والحمد لله - ننعم بصحةٍ وعافية، ولم نُصَب بأية عاهاتٍ، أو أضرار، أو أمراض.
فقوموا بواجبكم يا رجال البلدية، وتقبلوا مني فائق التقدير والتحية.