شُغِفَ البعض بالقراءة لدرجة أنك لا تكاد تراه على مقعد طائرةٍ، أو قطار، أو قابعًا في صالة انتظار، إلا وبيده كتابٌ يلتهم صفحاته بعينيه، فيما آخر إلى جانبه ينظر إليه بازدراء، وبيده شطيرةٌ أو فطيرة يغيِّبها شيئًا فشيئًا في شدقيه، فأين يكمن الفرق بين هذا وذاك؟
.
أما الأول فلم تتوقف به القراءة عند حدِّ المطالعة أو التثقيف، بل عدَّها مغامرةً مشوِّقةً، تعجُّ بالفهم، والاستنتاج، والتحليل، والتفسير، وإبداء الرأي، وإصدار الحكم، فالصفحة التي يقرؤها بالنسبة له بمثابة لوحة ألغازٍ، يجد المتعة في حلها، ويبحث عن اللذة في تحليلها. وأما صاحب الشطيرة، فقد ازدراه لأنه يرى أن القراءة مَهمَّةٌ مكلِفة، ورحلةٌ مكلِّفة، الكلمات في نظره رموز، والجمل طلاسم، فلا شك أن الهروب من كل ذلك أمرٌ حاسم؛ لأنه لا يستطيع أن يقرأ خطابا، ناهيك عن أن يتقن فهمًا أو استيعابا،
ولأن العلم لا يقوم إلا على معرفة، و المعرفة لا تتحقق إلا بفهم؛ فقد كان لِزامًا علينا أن نؤسس للفهم في مدارسنا، و ننشر ثقافته بين أبنائنا؛ فهم العماد الذي يُبنى عليه المستقبل، و بارقة الأمل التي يُرجى منها العطاء لهذا الوطن؛ ومن هذا المنطلق، و منطلق النتائج غير المرضية التي حققها أبناؤنا في اختبارات البيرلز الدولية – التي تقيس مستويات الفهم القرائي – في آخر دورةٍ لها؛ جاءت جهود وزارة التعليم – مشكورةً – في تحسين مهارات القراءة، و رفع مستويات الفهم و الاستيعاب؛ لصناعة جيلٍ يبحر في القراءة بمجاديف الفهم، وينصب سارية المعرفة؛ لينشر عليها أشرعة الثقافة، يحقق المنشود، و ينطلق بلا قيود، و يخرج من دائرة المحدود إلى أفق اللا محدود.
وهنا يأتي دورنا: آباءً، وأمهات، ومعلمين، وقادة، في تكريس جهودنا لرفع مستويات أبنائنا قراءةً و فهما. فما الذي يمنع أن أستوقف طالبًا عند خطأٍ قرائي فأصحح له؟! وما الذي يمنع من سؤاله عن فكرةٍ أو معنى، أو تشجيعه على النقد، والحكم، وإبداء رأيه فيما يقرأ؟! وما الذي يمنع أن نجلس ساعةً أو أقل مع أبنائنا في البيوت تحت مسمى (فسحة قراءة)؛ نحببهم من خلالها في المطالعة، ونكسبهم المهارة التي تجعلنا نباهي بهم وهم ينطلقون في القراءة أمام الملأ في محفلّ من غير تلكؤ، دون أن نقتصر على الإعجاب بمن حاز ذلك الشرف من أقرانهم؟!
إن تظافر الجهود، والإحساس بالمسؤولية تجاه أولئك الطلاب، واجبٌ شرعيٌّ قبل أن يكون مطلبًا وطنيًّا؛ فرسولنا ﷺ يقول: ” لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”، فأحبب أيها المعلم لطلابك ما تحبه لأبنائك، ويقول ﷺ ” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ…” فاتقوا الله أيها الآباء في رعايكم؛ عيشوا لهم وبهم، وامنحوهم ما يستحقون من اهتمام، ولا تجعلوا منهم أعباءً تتخففون منها على حساب كواهل الآخرين.