الحياة مواقف، والمواقف خير كاشف لثقافتنا، و فِكْرنا، و تفكيرنا، و أدبنا، و سلوكنا، و اعتقاداتنا، و معتقداتنا...
أحد المقربين الذين خُدِعوا بقلمي المتواضع ذي الخمسة عشر ريالاً، فقارنوه بالأقلام ذات المئات والآلاف، وفتنوا بصوتي المبحوح؛ فظنوا أن له صدىً يتردد كصدى تلك الأصوات الجَهْوَريَّة، هاتفني، و وصف لي موقفًا صادفه، وسألني أن أعبِّر عن هذا الموقف بمقال، يصف الواقع والحال، ونزولاً عند رغبة صديقي؛ سأروي لكم هنا تفاصيل ذلك الموقف، تاركًا لكم مطلق الحريَّة، وأكبر مساحةٍ للحكم والتعليق.
دخل صديقي إلى أحد المستشفيات ذات السمعة البراقة، و الضخامة في الإمكانات، وصادف دخوله دخول أحد أولئك
القادمين من أعماق الماضي؛ الذين لم تسمح لهم حياتهم الغابرة وبيئاتهم العاثرة أن يتعلموا، أو يلحقوا بركب التقدم والحضارة، فاقتصروا على هاتف نوكيا الكشاف في الوقت الذي تنوعت وتمايزت فيه الأجهزة الذكية، التي تعمل بمجرد اللمس؛ لتنقلك إلى عوالم خفية.
دخل الاثنان فقدَّم صديقي صاحبه أثناء الدخول؛ نظرًا لكِبر سنه، وأحقيته بالتقدير و الإجلال، و ما إن تخطَّت قدمه باب الدخول حتى أطبق عليه حارس الأمن قائلاً له: توكلنا ( بأسلوب لم يخلُ من الجلافة و الفضاضة التي اعتدناها من بعضهم، وكأنه تخيل نفسه ضابطًا برتبة مقدم أو عقيد)، ويبدو أن شيخنا كان به - إلى جانب بدويته و أمِّيته - شيئًا من ثِقَلِ السمع؛ فظن أن الحارس يقول له توكَّل (وهي كلمة تُلمِحُ في بعض المجتمعات إلى الطرد)؛ فثارت ثائرة الرجل، و انفجر بالخصام و الشتام و السب و اللعن، و كان مما قال بأسلوبه البدوي الخالص: (آل سعود الله يحفظهم وظفوكم عشان تطردونَّا والا عشان تخدمونَّا)، وانفتح باب الشجار على مصراعيه؛ لأن سعادة الحارس لم يدرك خفايا الشخصية التي يتعامل معها، بل كان جاهلاً كل الجهل بفنون التعامل. واجتمع حرَّاس الأمن من أروقة المستشفى و جنباته، وشرعوا في اقتياد ضحيتهم؛ للقيام بما يبرعون فيه من محاضر و إجراءات، ضاربين بكل الآداب و الفنون في التعامل مع المواقف عرض الحائط، وهمَّ الرجل في خضم ذلك كله أن يذهب إلى سيارته ليحضر عصاه الغليظة، فيرفع من حدة الشجار إلى المضاربة، و ربما القتل.
طبعًا راوي القصة لم يقف مكتوف اليدين؛ خصوصًا وأنه أحد رجال السلطة و القانون ( لكنه خارج وقت دوامه)؛ حاول تهدئة الموقف، وإفهام صاحبه أن الحارس يطلب منه إظهار تطبيق (توكلنا)، غير أن الرجل كان خارج محيط العقل تمامًا، و لم يكن يصغي أو يعي ما حوله.
نجحت الجيوش المحتشدة في اقتياد المعتدي الآثم، و سيق لإتمام الإجراءات، وتحويله إلى النيابة العامة، وطيلة طريق هذه المجريات و الأحداث - التي لم تخل من وجود بعض العنصريين المتعصبين ضد من يسمونهم بالبدو - كان صديقي مع صاحبه في كل جوله، إلى أن أُدْخِلا على أعلى سلطة في المستشفى.
شرع المسؤول في كتابة تقريره و خطابه للجهات المسؤولة، والتفت إلى صديقي وقال: طبعًا أنت شاهد على ما فعله هذا الرجل؟
كان من حسن حظ الرجل حضور شخصية مثقفة، متشبعة بالإنسانية، متقنة لأدب التعامل، مدركة لخصائص البشر؛ فجاء الرد على المسؤول: نعم كنت حاضرًا للموقف، لكن هل يلام رجلٌ في مثله سنه، ومستوى جهله وضعف قدراته الحسية؟
- القانون لا يحمي المغفلين، هكذا ردَّ المسؤول.
- إذًا فكيف حمى الرجل الذي بال في المسجد على عهد الرسول ﷺ؟! أو ذاك الذي جرَّ بردته - ﷺ - من على ظهره؟! هل أذن النبي - ﷺ - بمعاقبتهما، أم أنه ترفَّق بهما لجهلهما؟!
طال النقاش، وتمخَّض عن عفوٍ و صفح، وغادر الرجل شاكرًا لهذا الصديق الذي لم يتخل عنه، غير أن جهله لم يفارقه بعد، وظل يحسب نفسه صاحب الحق؛ فقال: (والله لولا الحشمه و القدر لك لكنت اشتكيتهم).
أعلم أني قد أطلت في السرد، لكنني أردت أن أصطحبكم إلى أدق التفاصيل؛ حتى لا يكون الحكم جائرًا، وسأختم حديثي بسؤالٍ و مطلبين، آمل أن تجد قلوبًا واعية، وآذانًا مصغية:
أما السؤال: فهل نُطلق العنان لمسألة (القانون لا يحمي المغفلين) فنجعلها مبدأ تعامل في مواقف الحياة مع الصغير و الكبير، والمثقف و الأمي؟!
وأما المطلبان:
- فهناك استثناءات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند سَنِّ القوانين، و تطبيق اللوائح و الأنظمة، و فرض القرارات - كهذا الرجل الذي مر معنا - يجب أن توجد لهم البدائل التي تناسب أعمارهم و قدراتهم و إمكاناتهم؛ فمملكتنا مملكة الإنسانية قبل كل شيء، وقادتنا رعاهم الله جعلوا المواطن و حقوقه في طليعة اهتماماتهم.
- على كل جهةٍ مسؤولة تقدِّم خدماتها للمواطنين أن تُضمِّن اشتراطاتها للعمل فيها حسن السلوك، وإتقان فنون التعامل و آدابه، خاصةً لأولئك الذين يعملون في مجال الاستقبال، ليس هذا فحسب؛ بل لابد من تقديم البرامج و الدورات لهم في هذا الجانب.
- لابد من ملاحقة العنصرية التي باتت تنخر جسد المجتمع على مستوى الواقعين الحقيقي و الافتراضي، ومحاسبة أصحابها، وإنزال أشد العقوبات بهم.
عذرًا على الإطالة، وأرجو أن تصل الرسالة.