نوره: زوجةٌ، وأمٌّ، وبنت، تجلَّت فيها أروع صور البرِّ التي طالما تفوَّقت فيها الإناث على الذكور، جاوز والدها التسعين، فكانت أبرَّ الناس به؛ شطرت حياتها نصفين؛ فجعلت شطرًا لبيتها، وزوجها، وأبنائها، وشطرًا لخدمة ذلك الشيخ، ورعايته، والاهتمام به؛ كيف لا وهو الذي طالما أحبَّها؟! وتغنَّى باسمها، ورفض أن يكنِّيه الناس إلا ب (أبو نورة)، رغم ستة ذكورٍ وأنثى يقاسمونها بنوَّته. كانت نوره تتردد على والدها طوال اليوم، تنتظر إفاقته عند رأسه، حتى إذا أفاق ونادى باسمها - كالعادة - وجدها هناك قريبةً منه بجسدها وروحها، ترفعه، تمسح بالماء جسمه الذي لم يعد يقوى على الحِراك، تطعمه، تعطيه دواءه، تشذِّب شاربه ولحيته، وتنبهه لأوقات صلواته؛ فقد كان طيلة عمره السراج الذي ينير المسجد، ويرفع النداء للصلاة فيه، وبعد كل ذلك تظل تحادثه وتؤانسه إلى أن ينام، ثم تعود إلى بيتها، موصيةً أمها أن تستدعيها إن لزم الأمر. ومرَّت الأيام على حالها، لكن حالة الشيخ الكبير كانت تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، إلى أن بلغ به الأمر إلى عدم تقبِّل جوفه لشيء من الطعام والشراب، حتى الماء أصبح ثقيلاً على معدته. حينها أحست نوره أن ساعة الوداع قد حانت، لكنها لا تعرف متى، ولا إن كانت ستسمح لها تلك الساعة أن تكون في الجوار أم لا، تراقبه في حضورها ولا تكاد ترفع طرفها عنه، وتترك قلبها وأحاسيسها ومشاعرها مستلقية في أحضانه وهو نائم قبل أن تغادره، لا تكاد عينها تغفو إلا وتهبُّ من فراشها مذعورة، طالبةً إيصالها لرؤية أبيها؛ فقد شعرت بحاجته إليها، بل وسمعت نداءه لها وهي مغمضة العينين. ولا غرابة؛ فتلك أحاسيس المحب، ومشاعر المحبة، وقوة الجاذبية.
وفي ليلة الوداع ذهبت نورة كعادتها كل مساء لفعل ما دأبت على فعله، وجدت الأب نائمًا فجلست إلى جواره تترقب يقضته؛ لتقدم له بعض الشراب والطعام، علَّه يَدْخُلُ جوفًا خاويًا منذ أيام، ولتمسح بكفِّ العناية والرعاية جسدًا أشبه ما يكون بالهلام.
طال الانتظار والأب لم يستيقظ، فقررت نورة العودة إلى بيتها؛ خصوصًا وأن أحد الإخوة قد وصل إلى البيت لرعاية الأب بعد ظَفَرِه بإجازة قصيرة من عمله العسكري.
وهناك في بيتها - كالعادة - لم يقرَّ لها قرار؛ فالأحاسيس تود إخبارها بشيء، وقلب المحب ينبض بشيء. طلبت من الزوج أن يعود بها للاطمئنان على أبيها بعد ساعتين فقط من تغيبها عنه. وصلت، لكن الأم التقتها عند الباب، وأخبرتها بأن الأب على حال النوم التي وجدته من قبل عليها، وطلبت منها العودة إلى بيتها على أن تتصل بها إن لزم الأمر. أقفلت نورة راجعة، وجلست في بيتها كيانًا بلا قلب ولا عقل؛ لأنها تركت كلا الاثنين وراءها؛ ليُنْبِئَاها عن أي طارئ. وقبل بزوغ الفجر دخلت على الزوج النائم لاهثةً مذعورة، تطلب منه أن يوصلها، فقد تم استدعاؤها، والأمر تحفُّهُ الخطورة. وصلت الحبيبة، ودخلت على حبيبها، فما كادت تراه حتى دوَّى صوتٌ مفجوعٌ ملأ المكان، ينبئ عن فوات الأوان، ورحيل أقرب وأحب إنسان. نعم آثر الحبيب الرحيل بإسراع، ليترك في القلب غصةً والتياع؛ كيف لا ونوره التي كانت أقرب ما يكون، لم تظفر حتى بالوداع !!
أحسن الله عزاءك يانوره، وعظَّم أجرك، وجمعك بحبيبك في الفردوس الأعلى، وهنيئًا لك أن كنت من اصطفى، وحُزْتِ منه الرضا، غاية الرضا.