الحياة مدرسة، والمواقف دروس، وكلُّ ما حولنا مخوَّلٌ أن يعطي تلك الدروس؛ فقد نأخذ درسًا في الإصرار وتحقيق النجاح من شجرةٍ لم يستعصِ عليها الصخر، فشقَّته وانتصبت من جوفه، أو درسًا في حماية الضعيف، والوقوف إلى جانبه، ونحن نشاهد مقطعًا لفرس النهر ينقذ غزالاً من فكي تمساح، ويذود عنه المفترسات في الخارج، ولا يتركه إلا بعد أن يوصله إلى بَرِّ الأمان، وربما أخذنا درسًا آخر في نصرة الأخ، ونحن نشاهد الضباع تشن هجومًا على أسدٍ ضعيف، فيهب أحد أبناء جنسه لنجدته؛ يطرد عنه الضباع، ويلعق الدماء التي نزفت من جراحه، ويرافقه إلى عرينه.
وتستمر الدروس، لكن - وكالعادة - هناك من يجيد الاستيعاب، فيتأمل تلك الدروس، ويحملها في جعبته؛ ليغيِّر بها من سلوكه، وهناك البليد الذي لا يرجى لبلاهته بُرْء؛ يمر بها مرور الكرام، وربما خرجت من فمه عند الختام عبارة (يا سلام).
وكغيري من تلاميذ الحياة، تلقيت درسًا قبل أيام، فأحببت أن أنقله؛ علِّي أكون بارعًا في النقل؛ فيحدث التأثير هذه المرة عن بعد، لا حضوريًّا. كان ذلك أثناء زيارتي لسوق البلد الشعبي في محافظة جدة - وكما هو معلوم - فإن مواقف السيارات هناك برسوم مالية، حيث أجهزة الدفع بالعملات المعدنية، ولأنني لم أكن أحملها؛ حملت عوضًا عنها همَّ الوقوف طيلة الطريق إلى هناك. وصلت وبحثت عن موقف، فوجدت واحدًا، وشرعت في إدراج السيارة فيه، لا ألوي على شيء إلا أن أترك زوجتي داخل السيارة تحرسها، فيما أبحث أنا عمَّن يزودني ببعض القطع المعدنية، وما إن استقرت السيارة في الموقف حتى أقبل إليَّ صاحب سيارة اللكزس الواقفة أمامي، بعد أن وضع ما بيده من مشتريات في حقيبة السيارة، رجلٌ يقارب الستين، حسن الهيئة، وزاد الحسنَ هيبته ووقاره. مدَّ لي يده بإيصال موقفه قائلاً: استفد منه، تبقى لك من الزمن ساعة إلا عشرين دقيقة، تناولت الإيصال، وغادر الرجل، بينما تسمَّرتُ أنا هنيهةً على مقعدي، أستوعب الدرس، بما حواه من لطف الله، ونُبْل ذلك الرجل. دخلت السوق، واشتريت بعض الحاجيات، وجمعت قطعًا نقديةً أودعتها الجهاز، وسحبت إيصالًا جديدًا؛ فقد انقضت مدة الأول، وأكملت تسوُّقي، وانتهيت قبل موعد الخروج بنفس الوقت الذي تركه لي صاحبي تقريبًا.
ركبت سيارتي، وأقسمت أن لا أتحرك حتى أرى باحثًا عن موقف. وما هي إلا لحظات حتى رأى إضاءة توقف السيارة الخلفية أحدهم، فاقترب ينتظر خروجي، ونزلت من السيارة لأسلمه الموقف، وإيصال الوقوف بما تبقت فيه من مهلة، ومن العجيب أنه كان بنفس مواصفات صاحبي الأول؛ هيئة، وهيبة، وحسن مظهر، وسيارةٌ من طراز مرسيدس. ناولته الإيصال، فخَرَجَتْ من فمه - وبكل عفوية - كلمة (ياحبيبي)، ركبت سيارتي، وأخليت له الموقف، وغادرت وأنا أردد الدعوات لمن علمني الدرس، وأتذكر قول الحبيب ﷺ (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، ورحت أتخيل حالنا لو أن كل واحدٍ منا طبَّق هذا الدرس.
بالطبع لم يخلُ الموقف من دروسٍ أخرى، لكنني سأترك لكم أصدقائي استنباطها.