أقبل رسول الرب سبحانه، تسبقه نفحات الرحمة، وتبشر به نسائم العفو والمغفرة، وتباينت جحافل المستقبلين في صور الترحيب بالرسول المرتقب، كلٌّ بحسب اهتماماته، وما يعنيه له الشهر الكريم، فذاك الذي يرى في رمضان مائدةً لكل ما لذ وطاب، طاف الأسواق، وجمع ما استطاع من طعام وشراب طيب المذاق، حتى إذا دخل الشهر اكتفى بالنوم طيلة اليوم، ليُفيق بعدُ على سفرة عامرة، يضرب فيها بيد الشراهة إلى أن يسقط مغشيًّا عليه في أحضان التخمة، ثم يتسحَّبُ بعد ذلك مثقلاً إلى أقرب موضع يتمدد فيه، متعاطفًا مع المعدة المغلوبة على أمرها، إلى أن تُتِمَّ ما استعسر من عمليات الهضم.
وعلى النقيض منه ذلك المسكين؛ الذي لم يجد ما يجدد به سفرته في رمضان من قاموس الأطعمة غير رقائق العجين، مع بعض الجبن، أو البطاطا المهروسة، التي سيحشوها بها؛ لأن ضيق الحال لم يجعل للحم المفروم مكانًا في قاموس السنبوسة، ولأن جاره استأثر دونه بكل شيءٍ، واستكثر عليه حتى صحن البسبوسة.
وهناك من رأى في رمضان فرصةً لاكتساب الرشاقة، والتحلي برداء الأناقة؛ فأعد الجدول المناسب لحرق الدهون والشحوم، وبادر بتسجيل اسمه في فريق الدورة الرمضانية؛ ليلمع اسمه بين النجوم.
أما من رأى في رمضان فرصةً للربح، وموعدًا مع ربه للعفو والصفح، فقد قرَّبَ ماء توبته، وهمَّ أن يغتسل مما دنَّسه من الذنوب والخطايا؛ مبادرًا بالمصالحة ومد يد المسامحة، واصلًا بعد انقطاع، محطِّمًا كلَّ ما أقامته الشحناء من حواجز؛ فقد كفى ما مر من العمر وضاع. فيما يظل آخر رهن الاعتقال؛ لأن إبليس شد عليه الوثاق، وأخذ منه العهد والميثاق، أن لا يخذله في رمضان، وأن لا ينساه بينما هو موثقٌ بالسلاسل خلف القضبان؛ فأحكم على قلبه الأقفال، وأسر عقله، وقيده بالأغلال، فعميت بصيرته عن مقاصد الشهر، وزاغ بصره عن تصرِّم أيام الدهر، غرَّه بعض صالح العمل، فاقسم على المخاطرة، وظل على ما هو عليه من التعنت والمكابرة، حتى إذا أُغلِق دون رجعته الباب، ووجد نفسه رهن التراب، وقد ضيع مواسم الخير دون مآب، قال: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
فهنيئًا لمن استعد وشمَّر، ولطفًا أيا ربِّ بمن تستَّر خلف غروره وتخمَّر.