أحد الأصدقاء دخل معي في مماحكة عبر الهاتف... عندما باغتني قائلًا: لو قلت لك (على طريقة التحدي) أن تأتيني بعدد قليل – قليل فقط – أنت تعرفهم تماماً، ينامون في سنواتنا الأخيرة عدة ساعات في ليل رمضان .. فهل تقبل التحدي؟
.
والواقع أن الناس قد اعتادوا السهر طيلة ليالي رمضان خلال السنوات الفارطة، ثم بعد صلاة الفجر يهجعون إلى فرش نومهم حتى التاسعة، ثم يتوجهون إلى أعمالهم، ترافقهم بيارق السلامة، وبقايا من نعاس.
.
ثم أنه كان من أمر سـيئة الذكر "كورونا" ما كان، وخاصة في أسابيع حظر التجول التي مرت بنا العام الفائت، فصار الدوام من البيت، والمدارس من خلال (منصة مدرستي) أي من البيت أيضًا، (بحيث أن طلابنا صاروا يدرسون وهم "متسدحين").
.
ولعل الملاحظ أنه عندما يأتي رمضان يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً، في انقلاب مذهل لحياتنا ولساعتنا البيولوجية، في حالة مغايرة عما اعتاده الأولون من أسلافنا - عليهم فيوض الرحمات - فأولئك الطيبون كان رمضان عندهم كسائر الشهور، منذ بدء حياتهم اليومية إلى نهايتها.
.
غير أن المبهج أن الناس في هذه السنة فرحون برمضان أكثر من رمضان الماضي، كونه جاء بعيداً عن طقس حظر التجول، الذي أرهقنا العام الماضي - كحالة استثنائية احترازية من أجل صحتنا.
.
ولذلك فشهرنا الفضيل في هذه السنة، سيمنحنا مساحة حركة أفضل – مع التقيد بالاحترازات – وبين أعطافه منح كثيرة، من أولها فتح مساجدنا، ففي الترحال لأداء صلاة المغرب بالمسجد متعة روحية لا مثيل لها، بكل جمالياتها وألقها، بعد أن نلتقط بضع حبات من التمر وعدة أكواب من القهوة (كشوط أول)، ثم نعود مشتاقين إلى تكملة (الشوط الثاني) بعد الصلاة.
ثم يكون الجمال أكثر في صلاتي العشاء والفجر، وبقية الفروض.
.
على أية حال ... فإن السهر صار ماركة رمضانية مسجلة، وأصبح (فرمانًا) اجتماعياً لا فكاك منه فيما يبدو، فلو أراد أحدنا أن يكسر قيود ذلكم الفرمان، بحيث (يقتنص) أربع ساعات مثلاً للنوم ليلاً، فمعنى ذلك أنه سينقطع عن العالم بأكمله، وسيغيب عن نبض الحياة.
.
ثم من الذي سيوفر لك الراحة المطلوبة حتى يداعب النعاس الشفيف أجفانك اللطيفة، فضجيج الشارع .. وصخب أهلك بجانبك، لن يجعلانك تغرق في بحر من النوم الرغيد.
.
هناك – فقط - حالة واحدة كمخرج من هذا المأزق، فيما لو كنت - أنت وأنا - نملك جزيرة صغيرة هادئة في عرض البحر، فنبحر إليها طالبين الهدوء، كحال عدد من الملياديرات حول العالم، ومنهم الملياردير الأمريكي "كريج ماكاو" صاحب الإستثمارات في مجال الإتصالات، مالك جزيرة "جيمس" الكندية، الواقعة قبالة جزيرة "فانكوفر" بثمن مقداره 19 مليون دولار
.
لكن طالما أننا لا حيلة لنا، كأولئك الذين تجري الدراهم بين أصابعهم الطرية - جريان الماء في الجدول، فإنه يتعين علينا أن نقنع أنفسنا طائعين مختارين بالسير في "ركاب السهر والسهرانين"، طيلة ساعات ليل رمضان، من دون (أفٍّ) ولا ضجر.
.
ولنا إن أردنا "السلوى" أن "نُسـرّي" أنفسنا بهذا البيت من شعرنا الشعبي الجميل:
(نسـهر مع القمرا بعالي المشـاريف ... ولابان نـور الصبـح قلـنـا سريـنـا).