في طقس منطقتنا الجنوبية، تقوم النساء بتخضيب أكفهن وأحيانًا أقدامهن بالحناء ليلة العيد، وفق نقشات مزركشة واشكال نباتية جميلة، حتى إذا ما جفت، بدت الأكف والأقدام في مشهد جذاب.
وظل ذلك الفعل حتى اليوم، أحد مفردات التراث والثقافة الجنوبية - وربما في مناطق أخرى في بلادنا – وهي مما يكون من الاحتفاء بالعيد بهجة وسعادة.
.
هذا ليس جديدًا ... الجديد هو ما يلي ....
فقد زاحم – مؤخرا - الرجال النساء ليلة العيد، وصاروا هم الآخرين منهمكون في صبغ ذقونهم، وشواربهم، ورؤوسهم بالصبغات الكيميائية .. لكي يظهروا منذ تباشير الصباح الأولى للعيد، وهم في مظهر شبابي، حتى وإن كان أحدهم قد زحف به العمر، إلى ما بعد الستين والسبعين وما فوقها
ضمن استراتيجية شخصية عنوانها: " شباب - على طول"
.
الصباغون – نسبة للذين يصبغون شعرهم وأنا منهم – يجب أن يشكروا الله تعالى، ثم مستر خواجه، الذي جاء لنا بهذه الصبغات، التي حولت الشايب منا، إلى فتى يافعًا، حتى ولو كان "وهميًا".
.
في كل الأحوال ... فإنني اتعجب - وربما معي من يتعجب مثلي - من هذا الزمان، الذي جعل حتى من هم في الثلاثينيات او الاربعينيات من الرجال، تغيب عنه سنوات قليلة، ثم تلقيه صدفة وإذ بحبات كثيرة من الشيب قد اقتحمت محياه.
في حين أننا ونحن أطفالا، كنا لا نرى الشيب إلا في وجه الرجال، عندما يبلغ أحدهم من العمر عتيّا، وعندما يحدودب ظهره، وتسقط نصف أسنانه، وتتلاشى نضارة وجهه.
.
والواقع أن الذي اعتدناه أن الشعر الأبيض، وفي السنوات الأخيرة، صار يعترى الشباب بشكل ملحوظ، فأحدهم هو في الحقيقة شاب، لكنك تراه أمامك في هيئة " شيخ شاب " في ذات اللحظة ... فما الحكاية؟
.
التفسير عندي ـ وهذا رأي فقط وليس حجة ـ أن ضغوط الحياة في هذا العصر، قد فعلت فعلتها، وتحولت هموم المعيشة إلى حالة من القلق الدائم، أدى إلى هذه الموجات من الشيب التي صارت تجتاح الكثيرين، وتحول أحدهم من رجل مفتول العضلات، يحمل فوق محياه ذقنا أشد سواداً من الليل، إلى آخر " معقوف " الكتفين، تطفر ذقنه وشاربه بعدد لابأس به من حبات الشيب.
.
هذا من جانب ومن الجانب الآخر .. فإنني أعتقد أن غياب ثقافة الابتسامة والروح المرحة، عند عدد ليس قليل من الناس، قد جعلهم نهبا للانكفاء، ومحاصرة الذات داخل سجن عجيب اسمه "الرزانة المصطنعة" .. وصار الواحد من هؤلاء يتوهم أنه لو ابتسم أو كان "خفيف ظل" لبعض الوقت خلال اليوم .. فإن فعله ذاك سيضيع هيبته، وينقص مقداره، ويحط من قدره.
لذلك فإن هذا الفريق من الناس قد أوقع نفسه في شر أعمالها، وهو يتصنع " الرزانة " على طول الخط، ويبدو شخصا وقورًا في كل الأحوال .. ولم يدر أن الساعات واللحظات هي : "ساعة .. وساعة".
.
وختاما ... فإنني لا أنسى ذلك الموقف الذي حدث ذات مرة، عندما كنت في إحدى الصيدليات، وإذ بأحدهم يُومئ للصيدلي بطلب ظننت أنه عقار غريب أو ممنوع .. وإذ به مجرد صبغة شعر، فقد كان صاحبنا يطلبها باستحياء وخجل شديدين، خشية أن يفتضح أمره، وتنكشف سنوات عمره، أمام من قد يصادف وجوده في الصيدلية، من المعارف والأصدقاء.
فتتحول الحكاية إلى وجبة من النكات على حاله، الذي ربما أراد له أن يظل في طي الكتمان.