ما يلي من نافلة القول، وتحصيل الحاصل - لكنه فقط مهم للاستهلال - فأنت وأنا عندما نقيم وليمة لقريب أو صديق، فنحن لا نهدف إلى إشباع جوعه، وسد رمقه، فهو في غنى، خاصة في هذا الزمان الذي عمّ فيه الخير وتوفرت النعمة للجميع.
والحمد لله
.
لكنك تفعل ذلك تقديراً ومحبة واعتزازًا، وتطلعاً لأن تظل المناسبة ذكرى عزيزة لا يمحوها الزمن، سواء لديك كمستضيف ولدى الزائر كضيف، وفي تقديري أن الكثيرين ما زالت قلوبهم تنبض بزيارات ودعوات لبوها للآخرين - والعكس - رغم مرور سنوات طويلة عليها.
.
أجدادنا كانوا يحدثوننا عن بيوت وأسماء معينة، كانت بيوتهم علامات مضيئة في دنيا الكرم والجود، أولئك الكرام الذين رحلوا تزفهم الرحمات، مضوا بعد أن ورثوا تلك الخصلة الفريدة للأجيال التي جاءت من بعدهم، حتى إذا ما رأيت أحد بنيهم هتفت: "كريم من بيت كرم".
.
وتظل خصلة الكرم علامة مميزة لنفر من الناس، تعطرت دواخلهم بحشد من القيم .... النبل، الشهامة، حب الآخر، السمو، رقي الخصال ... الخ.
.
وعادةً ما يكون الكريم مخلوف في ماله، وهذه مجرّبة، فمجرد أن تنفق بنية صادقة، يكون الخلف ولو بعد فترة، وقد قال الأولون: "البخل ينقص قدر الإنسان ولا يزيد في رزقه".
.
وفي حِكم وأمثال العرب الغُنية، فقد قالوا من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه .... وفي المقابل فإن البخل أن يرى الرجل أن ما أنفقه تلفاً، وما أمسكه شرفاً.
وقيل أيضا على سبيل المجاز .... البخيل - عادة - على استعداد تام، لبيع حصته من الشمس.
.
وعلى طريقة فاصل ونواصل ...
فقد قال العالمون ببواطن الأمور، إن المرأة لا تحب إلا الرجل الكريم، وأنها تكره البخيل، وبناء عليه يظل الزوج الكريم هو الحظ الكبير للزوجة، فهو كريم ليس بماله فقط، وإنما أيضًا بأخلاقه وعواطفه وتضحياته.
وقيل كذلك إن من صفات الكريم - والعهدة على الراوي - أنه يرضى بزوجة واحدة، فهو قنوع بها، ويرى أنها تكفيه عن كل نساء الأرض.
.
ونعود لموضوعنا فنقول ... إن ثمة شعرة دقيقة بين الكرم والـ "الهياط" ... فثمة من يحاول أن يتسلق شجرة الكرم من خلال "المهايطة" .. فينفق الكثير والكثير ليُقال إنه كريم، ويفعل من المناسبات مما لا لزوم له، طمعاً في انتشار ذكره، وذيوع صيته، فـ تلصق بظهره الديون.
ويظل يداري وجهه عن "الديّانة" لمجرد سقوطه في السخف والحماقة التي تلبسته، وأوقعته في شر أعماله.
.
ويظل الكرم الحقيقي، أن تجود بالموجود، وأن تفعل ما تستطيع دونما تكاليف مرهقة.
بنفس حلوة على طريقة "لاقيني ... ولا تغديني".
إذ أن ثمة من يستضيفك وهو مكفهر الوجه، عابس المحيا.
.
وألاّ يكون كرمك "مقايضة" عطاء بثناء....
لكنه حالة نفسية صاحبها يعشق هذا الفعل بقدر معلوم .. يسعد به نفسه أولًا، ثم يسعد به من يمنحه كرمه.