منذ قدحت شرارة كورونا من مشرق الأرض، ومضت تسري كالكهرباء في كامل جسد العالم، حتى توعكت الكرة الأرضية بكاملها، ولا أظن أنه حتى الجزر الصغيرة الناعسة في وسط المحيطات قد سلمت من شره.
.
أقول منذ ذاك .. توقفت أشياء كثيرة في حياتنا، من بينها مواقف لطيفة وظريفة، مثل هواية التقاط (صورة سيلفي) مع الآخرين.
وبالطبع فالصورة مع الآخر، لا تكون "ذكرياتية" ولها قيمة اعتبارية، إلا عندما يكون وجهك ووجه ضيفك سافرًا .. أما أن تلتقط صورة مع وجوه الآخرين وهي متدثرة خلف الكمامات، لا يرى منها إلا العينين والحاجبين فإن الصورة حينذاك لا معنى لها.
.
ولذلك سيظل "السيلفي" بمعناه الجميل، في إجازة حتى ترحل عن دنيانا سيئة الذكر "كورونا"، ثم نعود كرة أخرى - زرافات ووحدانا - نلتقط لبعضنا صور "السيلفي" التذكارية - حتى نشبع.
.
والواقع أن صور السيلفي كانت انتشرت خلال السنوات القليلة الماضية بشكل واسع، بعد أن وفرت كاميرات الجوالات الرقيمة الحديثة هذه الخدمة، أو بواسطة عصا السيلفي المعروفة، غير أن المؤرخين يعيدون أول صورة سيلفي لعام 1926م لشخص التقط صورة لنفسه بمعاونة المرايا.
.
ولـ "السيلفي" جنون لا حدود له، ما دفع عدد من الناس إلى المغامرة في رحابه حتى فقدوا حياتهم ثمنا بخسًا له، ومن ثم طارت الأنباء تقول إن فلانًا قد مات بسبب صورة، إما أنه تسلق شرفة المنزل والتقاط الصورة وسقط حطامًا، أو أنه "تشعبط" في عمود كهرباء واقتراب من المحول الكهربائي فاختطف روحه، كما حدث في روسيا عام 2016م لتلميذين.
.
وثمة في الواقع بيننا – ونحن منهم – من إذا حضر مناسبة رسمية أو اجتماعية، ظل من بين شغله الشاغل، تحين الفرصة لالتقاط صورة سيلفي مع أحد الشخصيات الحاضرة المهمة، أو المشاهير، لتكون ذكرى غالية، يعدُها من أهم "الكنوز" الشخصية في حياته.
.
وكاتب هذه السطور حضر ذات مرة مناسبة إعلامية سياحية، احتشد على ضفافها عدد من المسؤولين، وكان كل شيء يسير بشكل روتيني عادي.
ثم .. حدث شيئًا غير عادي، عندما جاء من يهمس في وسطنا، أن النجم الكروي العربي الشهير "محمود الخطيب" صار على باب القاعة، يهم بالدخول، فإذ بعدد ليس قليل من الحاضرين قد تركوا مقعدهم، وراحوا يصطفون بجانب نجم مصر وأهلي القاهرة، يلتقط كل منهم صورة سيلفي معه.
.
والواقع أن للنرجسية دور مهم في حكاية صور السيلفي، والنرجسية ليست عيباً بكاملها، إلا في حال الإفراط فيها، في محاولة لنيل درجات أعلى من الإعجابات في الوسط الذي يعيش فيه.
وهنا يتدخل هرمون السعادة "الدوبامين" ليقول كلمته لدى كل إنسان منا، حيث يدفع ذلك الهرمون الشخص الذي لقيت صورته إعجابات، إلى تكرار التجربة مرات ومرات أخرى مختلفة، باعتبار الإنسان مجبول على حب الاطراء.
.
ولأن من الفنون جنون .. فقد تفتقت عبقرية الفنان التشكيلي البرازيلي خورخي سيلفا، على رسم صورة الوجه السفلى من وجوه زبائنه على كماماتهم البيضاء، ليظهر وجه كل منهم كاملًا وواضحًا خلال التقاط صورة سيلفي، في محاولة ربما للالتفاف على الجائحة.
لكن هناك من يرى أن هذا الجنون الفني مجرد محاولة "تعويضية" ليس إلا .. تدفعنا لإعادة استنطاق المثل الجنوبي الدراج: (ما شي - كما شي).