ذات مرة وأنا في إحدى بلداتنا الجنوبية , وقبل حلول رمضان بيوم , كنا أربعة نصطف في أحدى ملحمات تلك البلدة .. كنت أريد ابتياع شيئا من لحم "حسيل" كان مشنوقا في كلاليب الجزار .
.
لكنني كنت مترددا , هل أشترى ثلاثة كيلو جرامات أو اثنين .. بقصد تحويلها إلى مفروم لصناعة سمبوسك رمضان .. ثم استقر رأيي على أن كيلوين أنسب من ثلاثة .
.
غير أن ما لم يكن في حسباني , أن أول زبون معنا , كان قد طلب شئيا لم أكن أتوقعه - ولا في الحلم - فقد سمعته يؤكد على الجزار قائلا :
( هاه .. أبغي رجل الحسيل كاملة )
فيما صاح الثاني : ( وأنا أريد الرجل الأخرى )
فيما لم يتحدث الزبون الثالث
حتى ظننت أن الرفاق سينقضون على الحسيل عن أخره , ثم لن يبقى إلا الكوارع - ربما !!
.
تلك الصورة الذهنية من نهم الشراء , التي رأيتها وعشتها , ما زالت عالقة في ذاكرتي , رغم مرور سنوات عليها
.
والواقع أن هذا الانكباب المبالغ فيه على شراء ما يعرف بـ (مقاضي رمضان) هي ظاهرة عامة في القرى والمدن على السواء .. ففي السوبر ماركتات في المدن , نرى حشدا مهولا من "العربيات" , التي تنوء بما على ظهورها من حمول .. يدفها الرجال والنساء في تزاحم وهلع .
.
حتى أنه لو زار المكان - لأول مرة - شخص أجنبي لا يعرف ثقافة البلد , ورأي ذلك الزحام وتلك "العربيات" تخرج متخمة من فوهة المحلات بكثافة , لظن أن هناك عملية توزيع مجاني من أحد المتبرعين .
.
والحقيقة أننا أمام مشاهد كتلك تظل الذاكرة حائرة تتساءل .. ما معنى رمضان ؟ ..
هل هو شهر الصوم .. أم شهر الأكل ؟ ..
المعنى المعروف : أنه شهر الصيام , ثم أكل اليسير والمتيسر
لكن المعنى الذي تلقطه عيوننا , مما نرى من تدافع على شراء وتخزين الأطعمة .. تقول : إنه شهر الأكل الكثير بعد ساعات الصيام , بدءاً من بعد المغرب حتى تباشير الفجر .
.
ولذلك فإن ميزان المصروفات لكل بيت تقريبا يتضاعف ربما مرتين أو أكثر في رمضان , عن غيره من الشهور الأخرى .. وأنظر إذا شئت إلى سفرة الإفطار الرمضانية , كم تحتوى من المآكل والمشارب من كل صنف ولون .
ثم كم يدخل منها إلى بطوننا , وكم الذي يتحول إلى صناديق القمامة ؟.
.
ثم تابع - إذا أردت - نشاط عمال البلديات , الذين تزيد ساعات عملهم في رمضان - حتما - لمقابلة ما تضخه البيوت إلى صناديق القمامة العامة كل ليلة , من بقايا طعام هي أضعاف ما عليه الحال خارج رمضان .
.
ثم تأمل حال النساء في البيوت , حيث تعلن حالة الطوارئ في كل مطبخ بيت , منذ الثانية بعد الظهر وحتى انطلاق مدفع الإفطار ... الزوجة , البنات , الخادمة , كلهن منهمكات في (السلق / الطبخ / القلي / العجن / الشواء / التقطيع ... الخ ) .
.
وهذا العمل المضن هو لإطعام أهل البيت فقط .. أما إن كان هناك ضيوف فإن حالة من الارتباك والتبذير , ستضاف إلى حالة الطوارئ السابقة .
.
ويبقى أن أقول , أن من يقرأ هذه السطور ستكون ردة فعله بين حالين .....
الأول سيقول : يا أخي الناس بخير - فدعهم يأكلون ويشربون براحتهم .. ما الذي (أحرق رزك) ؟
والثاني سيقول : بل معه حق , فوسط هذا الإسراف الواضح , ضاعت الكثير من قيم رمضان ودروسه .
3 pings