حتى وقت قريب كنت أتمثل ما قاله الشاعر المخضرم "الأموي/العباسي" بشار بن برد:
(يا قوم أذني لبعض الحي عاشقةٌ ….. والأذن تعشقُ قبل العين أحيانًا).
والشاهد هنا هو الشطر الأخير من بيت بشار هذا.
ولذلك كنت - في زمن بعيد - أمام قرية ” ذي عين ” الأثرية بمنطقة الباحة، أكتفي بما أسمعه فقط بأذني عنها، فسرى ذلك "السماع" مسرى العشق في فؤادي، حتى صرت أهيم بتلك القرية الساحرة.
.
لكنني - فيما بعد - عدلت عن فلسفة "بشار" تلك، وقررت أن تحلّ العين مكان الأذن، فاعشق بـ "عينيّ" انطلاقا من مقولة "ليس من رأى كمن سمع" .. وهذا ما جعلني أقف على "تفاصيل" أكثر رأيتها مبثوثة بين يدي، عندما زرتها لأول مرة، لأن ما تراه العين لا بد وأن يكون أكثر "بذاخة".
.
وهذا ما قرره الأولون - ومنهم الشعراء، يقول الشاعر اللبناني أمين تقي الدين، الذي رأى بعينيه، فقال:
(يا حفلة لما رأيت سناءها …. أيقنت أن الليل صار نهارا)
(مَلكَ البيان عليّ حُسنٌ شاقني …. فيها وصيّر واصفيه حيارى).
.
وبالفعل فقد كنت حائرًا، كيف أصف "ذي عين" ..
تلكم الأيقونة التهامية المتأنقة، أو لعلها "الحورية" التي ربما انسلت من البحر القريب منها ذات يوم، وراحت تتوسد أسفل سفوح السروات الشاهقة، لتظل تردد أناشيد البهاء، وأغنيات الجمال للمسافرين عبر الطريق العام، الذي يجاور طرفي قدميها، ثم لا تتوقف عن التلويح لهم بيدها المحملة بأكواز الموز و"عذوق" والكادي، ولفة الريحان، الذي يتهادى فوق تراب بساتينها.
.
للوهلة الأولى رأيت التاريخ رابضًا وسط مساريب بيوتها الأثرية الجميلة، فالقرية تتربع فوق جبل من المرمر، تقوم فوقه مبان تم تجديدها بذات الطابع القديم للأصل.
.
التاريخ هناك .. يمكن لك - كزائر- أن تنصت له وهو يتحدث بصوت رخيم عن صفحات أيام مضت تنوف عن أربعة قرون، وهو يروي للسواح حياة الصخب الجميل لتلك القرية، بمبانيها الساحرة، وحقولها الطافرة بالإخضرار، وعين ماءها الأسطورية، التي تنشق من عمق الصخر في جنوبي القرية، فتملأ الأفواه والحقول ليس عذبًا فراتًا وحسب، وإنما دفقات من حياة حالمة.
.
ولم بكن من الممكن بحال، أن تكون تلك القرية العذبة في تاريخها وملامحها وتفاصيلها الصغيرة، غائبة عن قطار السياحة السعودية، ولذلك هرولت وزارة السياحة إليها، واحتضنتها بلوعة المحب وبفكر المحترف، فضخّت في جنباتها ملايين الريالات، وتحول المكان بذلك الدعم الجيد إلى فعل مشرق، وحلم واعد.
.
الزائرون لتلك التحفة السياحية "قرية ذي عين" تراهم يجولون داخلها وعلى أطرافها، وفي جنباتها المترعة بالبهاء لعدة ساعات من سحابة نهارهم، وقد كنت - لأكثر من مرة - من بين من طاف بها.
.
حتى أنني تتبعت - في شوق - سريان جدول مائها المتدفق ليل نهار، من نقطة المنبع من بين كتل الصخر، وأنصت، واستمتعت بمعزوفة ألحان خريره، وشممت رائحة حقول الكادي والريحان، وتأملت من عدة "مطلات" هناك، بساتين الموز والحنطة، وسافرت بعيني مع نخيلها المتطاول إلى عنان السماء، وصليت في مسجدها المعمور بالحجارة والمسقوف برقائق الصخر، وصعدت إلى حيث انتصبت مئذنته الدائرية فالمخروطية من مادة الأحجار المنحوتة من الجبل القريب.
.
ورأيت – ذات مرة - قوافل السياح تملأ المكان ضجيجا وحياة وحبورًا، كانوا مجموعات من طلبة المدارس، ومجموعات أخرى من الأسر وبينهم أطفالهم، الذين راحوا يتفيؤون ظلال الأشجار الوارفة تارة، ويتقافزون حول الشلالات المتدفقة فوق جروف صخرية، ثم لا يلبثون أن يتواروا داخل عُششٍ هياكلها من سعف النخيل.
.
وعندما حانت لحظة الوداع .. وداع ” ذي عين ” الساحرة، وفيما كنت ألوح لها بكفي الممدودتين للسماء، كانت تتداعى إلى ذاكرتي تلك الأبيات الشعرية الشعبية العذبة، للمبدع دائمًا، الشاعر محمد بن مصلح، عندما ترنم قائلًا:
يا موز يا موز في وادي الغلا لأهل ذي عين
ومغرس البن والكادي في أصدار حزنه
يا ماحلا لفّة الريحان والطلع مايل
بُنّ البرازيل - مايجي كما بُنّ شدانا