بصرف النظر عن المبررات والذرائع والمنافحات التي دافع فيها البعض عن تصريحات الوزير اللبناني قرداحي، التي اتخذ فيها موقفًا منحازًا لإيران وحزب الله والحوثيين ضد المملكة، التي أحسنت إليه وإلى ابنتيه، وفي العموم إلى لبنان عبر عقود عدة.
وانطلاقًا فقط من وجهة نظر سياسية ودبلوماسية في أبجديات علم السياسة وأساسياتها حيث لا مكان للعاطفيات والمعسوليات، وانطلاقًا من الحقيقة بأن الدبلوماسية - ضمن مفاهيمها المتعددة - هي فن تحويل الخصوم إلى أصدقاء، فإن تصريحات قرداحي جاءت العكس تمامًا لهذا المفهوم.
وإذا كانت السياسة الخارجية لأي دولة تضع في أولوياتها العمل من أجل مصلحتها الوطنية العليا ومصلحة شعبها، فإن تصريحات قرداحي أضرت بالمصلحة الوطنية للبنان بشكل مباشر، وبمصلحة العاملين اللبنانيين في المملكة ودول الخليج وحركة التجارة بين لبنان ودول الخليج، وفي مقدمتها السعودية التي تمثل وارداتها من لبنان 50% من واردات بقية دول الخليج.
وفي الواقع فإن تلك التصريحات خدمت - إلى جانب غرور وعشق الرجل للأضواء الإعلامية - حزب الله وإيران، والحوثيين بشكل خاص، الذين علقوا صور قرداحي في الميادين العامة والشوارع الكبرى في صنعاء واطلقوا اسمه على أحد شوارعها الكبرى، جنبًا إلى جنب مع أشهر شوارع صنعاء (شارع جمال عبد الناصر)، وربما أن قرداحي ينتظر أن يوضع له تمثال في متحف الشمع.. وربما أنه صدق نفسه بأنه زعيم لبناني من نوع جديد، وأن هذه الحركة المسرحية ممكن أن توصله إلى قصر بعبدا.
اعتقد - في تصوري- أن اعتذار قرداحي أو استقالته، أو حتى إقالته لن تصحح مسار العلاقات السعودية - اللبنانية التي لا تعتبر إساءة قرداحي للمملكة الأولى من نوعها، فهناك سلسلة إساءات عديدة سابقة ليس آخرها تصريحات وزير خارجية الحكومة اللبنانية الانتقالية، شربل وهبة، في شهر مايو الماضي، وقبلها إساءات صهر الرئيس ميشال عون، جبران باسيل للسعودية ، وتهريب المخدرات إليها عبر شحنات الفواكه والخضروات.
ويمكننا أن نسلم بالمقولة اللبنانية بأن حزب الله مكون أساس من مكونات الشعب اللبناني، كما هو الحال بالنسبة لحماس في المشهد الفلسطيني، لكننا في الحالتين نقف أمام وضع ناشز وغير مسبوق في تاريخ الدول وفي تاريخ العلاقات الدولية، وهو أن يتصرف هكذا مكون باستقلالية تامة عن الدولة، ويفرض وجهة نظره على سياساتها وعلاقاتها وتحالفاتها، ويهدد وحدتها الوطنية ومصلحتها القومية لحساب مصلحة دولة أخرى.
وطالما أن العديد من دولنا العربية تحتلها ميليشيات وأحزاب تبيعة لإيران ، فإن التعامل مع الحكومات الشرعية لهذه الدول سيظل شائكًا وسيظل مرهونًا بانتهاء هذه المرحلة التي تعتبر وصمة عار في تاريخ الأمة، كما ينبغي الأخذ في الاعتبار أن محاولة تبرير تصريحات قرداحي بأنها صدرت قبل توزيره، تعد عذرًا أقبح من ذنب، فقرار توزيره بعد هذه التصريحات يبدو كأنه مكافأة على تلك التصريحات، أما التبرير الآخر بأن تلك التصريحات لا تمثل رأي وموقف الحكومة اللبنانية، فلا يبدو مقنعًا لأن قرداحي حسب قوله "جزء من حكومة متكاملة".
القضية التي يبسطها قرداحي ويصفها بأنها "حرب عبثية وعدوان على اليمن" أكبر من ذلك بكثير، فالموضوع يتعلق بمشروع إيراني خطير (الهلال الشيعي) يهدف إلى سيطرة طهران على الثغور العربية، والسيطرة على باب المندب – إلى جانب سيطرتها الفعلية على مضيق هرمز- للتحكم في طريق التجارة العالمية في هذه المنطقة الهامة على الخريطة الدولية استراتيجيًا وجيوسياسيًا، إضافة إلى السعي نحو فرض النفوذ الشيعي على الدول العربية التي تقع ضمن هذا الهلال.
وكل ذنب المملكة أنها وضعت على عاتقها التصدي إلى هذا المخطط الاستعماري الخبيث، مع التكلفة الباهظة التي دفعتها، وما زالت تدفعها، لإفشاله.